|
||||||
Updated: الاحد, تشرين الأول 26, 2008 09:52 ص | ||||||
فهرس العدد |
دمشق في عيون التُراثيين ـ 2 جِلّق ـــ د.محمود الربداوي
«شوقي»
«شوقي»
«حسان»
«النابغة» جِلّق هذه التي ورد اسمها على ألسنة الشعراء القدامى والمحدثين، وخاصّة شوقي، حار اللغويون في أصل اسمها، كما حار الجغرافيون في تحديد موقعها، وصاحب معجم لسان العرب([1]) يقول: جِلَّق و جلِّق، موضع يُصرف ولا يُصرف، ونقل عن صاحب التهذيب أنه بكسر الجيم وتشديد اللام، موضع بالشام معروف. وذكر بيت حسان الذي زار بلاد الشام في الجاهلية ومدح الغساسنة الذين كانوا يسكنون في جِلّق، وكان النابغة أكثر تحديداً جغرافياً لجلق التي وَصَف قبور عظماء الغساسنة بأنها في جلق وفي صيداء التي عند حارب، وحارب هذه أراد بها القرية المسماة في زماننا هذا (كفر حارب) وهي قرية في الجولان مازالت ماثلة إلى يومنا هذا. ويذهب بعض اللغويين الذين اشتغلوا بالمعرَّبات. أن جلق اسم مُعرَّب ورد في كلام العرب ـ كما يقول شهاب الدين الخفاجي (977 ـ 1096هـ) في كتابه شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل)([2])، وقال: وهو اسم دمشق، وقيل: موضع بقربها([3]) وكذلك قال الجواليقي: «وجلق: يراد به دمشق، وقيل موضع بقرب دمشق، وقيل إنه صورة امرأة كان الماء يخرج من فيها في قرية من قرى دمشق، وهو أعجمي معرب وقد جاء في الشعر الفصيح، وأورد بيت حسان شاهداً على ورود الاسم في الشعر الفصيح وأنا أوافق على أن الاسم أعجمي وإن ورد في الشعر الفصيح؛ لأن فقهاء اللغة والذين درسوا علم الأصوات والحروف أجمعوا على أن حرفَيْ الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة عربية. ونقل محقق (المعرَّب) عن دائرة المعارف الإسلامية أن (جلق) «موضع بالشام، غفل جغرافيو العرب؛ منذ عهدٍ قديم، عن موقعه الأصيل، فهم يجعلونه حيناً في الغوطة، وحيناً يقولون إنه دمشق نفسها. وكانت جلق إحدى منازل أمراء غسان من بني جفنة، وهي تلي في المرتبة الجفنة أشهر هذه المنازل وأكثرها ذكراً، وكان بهذا البيت فيها ضريح يدفنون فيه موتاهم، وقد حلت بهم فيها هزيمة على أعدائهم اللخميين، وهو أمر لا يتفق والقول بأنها كانت تجاور دمشق. وجلق إلى الجنوب الشرقي من حرمون (جبل الشيخ) ولم تكن جلق تبعد عن (بصرى) وكانت البلقاء....([4]) ويمر إلى جوارها مباشرة طريق يصل ما بين دمشق ومصر. فإذا عرفنا أن ثنيّةً من ثنايا النهر تحمل هذا الاسم، قد ذُكِر أنها في هذه البقعة، وتدبّرنا ذلك كله، فإن الصورة التي نخرج بها من هذه التفصيلات الخاصة بتخطيط هذه الأرض تشير إلى الموضع الذي لا يزال موجوداً في حوران الجنوبية وهو (جِلّين) غير أن تغيير الحرف من نون إلى قاف مازال مشكلة لغوية تتطلب الحل.»([5]) ولنترك هذه التوطئة لنتحول إلى مقدمة عن صاحبنا (ياقوت الرومي) أو الحموي كما هو مشهور من اسمه، ثم ننقل من (معجم بلدانه) ما كتبه عن (جلق) لأنه هو العليم الخبير بدمشق وجلق لأنه عاش في دمشق حقبة من الزمان، وتنقل في غوطتها، وهو رجل يوثّق معلوماته فإليك هذه المقدمة ثم ترجمته لجلق. * * * درجت مجلة (التراث العربي) على مواكبة الأحداث، وأخذتْ على عاتقها التفاعل مع مستجدات العصر غير ناسيةٍ التزامها التراثي، ومن هذا المنظور فقد خصصت أعداداً عدة لمناسبات ثقافية، كالأعداد التي خصصتها لحلب عاصمة الثقافة الإسلامية سنة 2006، والعدد الذي خصّصته للجزائر عاصمة الثقافة العربية سنة 2007. وقد حاولت المجلة أن تكون افتتاحيتها ذات صلة بموضوع السنة التي تكون فيها عاصمتها محور ذلك العام. ومن هنا جاءت افتتاحية العدد 109 عن (دمشق في عيون التراثيين) وفي العودة إلى كتب التراث وجدت خير من تكلم على دمشق هو ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان، تكلم على دمشق لغوياً وجغرافياً وفلكياً واجتماعياً وأدبياً، فجاءت قراءته لواقع دمشق فيها من الشمولية والمنهجية وحسن الأسلوب كأنها كُتبت في زماننا هذا فلذا آثرت اختيارها، فإذا تذكرنا أن قلم ياقوت قلم أديب لغوي يتمتع بقسط غير قليل من الشاعرية أدركنا سر هذا الاختيار الذي يوقفنا على نصوصٍ ترتقي إلى درجةٍ رفيعة من الفصاحة والبلاغة، فضلاً عن المادة الفكرية والتراثية التي يتضمنها هذا الاختبار، وقد أغراني الأسلوب الذي ينطوي على قدر كبير من الشفافية والشعرية أن أواصل النهل من كتابات ياقوت التي تجمع هذين العنصرين من الكتابات التراثية: شمولية الفكرة وشفافية الأسلوب، وحاولت ألا أخرج فيما أقدِّمه هذا العام عن موضوع (بلاد الشام) الذي يؤطر (دمشق عاصمة الثقافة العربية)، ولكن من خلال عيون خيرة التراثيين الذين يتحمّلون مسؤولية الكلمة، ويَعون بُعد الفكرة التي يتناولونها. ولماذا لا أترك لكاتبنا المفضّل أن يحدِّثنا في هذا العدد عن الاسم الثاني لدمشق، وهو جِلَّق، ولكن رب سائل قد سمع باسم (ياقوت) ولكنه يطمح بالمزيد من معرفة هويته، فإليك هذا المختصر من حياته لكي تتكامل الصورة بين الهوية والفكر الصادر عنها والأسلوب الذي تتميز به. فجميع المصادر والدراسات التي كُتبت عنه تُجمع على أنه شخصية استثنائية في الفكر العربي وحتى ليصفونه بأنه أحد عباقرة الفكر الإنساني، واستغل بعضُ المستشرقين ومن تابعهم من الكتّاب العرب صفة العبقرية هذه ليرجعها إلى أصله (الرومي)، وكان ذلك في سياق الهجمة الشعوبية التي كان هدفها تجريد الفكر العربي من كل صفات العبقرية، وسَلْب كل صفات التميّز والإضافات الحضارية عن المفكر العربي، ليصلوا بذلك إلى أن كل ما قدمته الحضارة العربية من منجزات فكرية وثقافية في هذه التراكمات الثقافية التي بهرت العالم القديم والحديث لا تعدو أن تكون منجزات دخيلة وفدت على الفكر العربي في ظل امتداد الحضارة الإسلامية على بقاع كثيرة من الأرض كانت تعيش فيها أمم وجنسيات وأعراق وحضارات أنبتت ـ بين الفينة والفينة ـ عباقرة رفدوا بمنجزاتهم العلمية والفكرية بشتى ألوانها، الفكرَ الإسلامي في إبان ازدهار حضارته. غير أني ـ قبل أن أدحض هذه المقولة ـ أريد أن أفسر ظاهرة عبقرية ياقوت الرومي مرجعاً هذه العبقرية إلى عصاميته وإلى الإطار البيئي الذي تقلب فيه، وإلى الظروف الاجتماعية والفكرية التي كوّنت شخصيته، فقدمته شخصية مُتميزة أغنت التراث العربي بألوان طيف من المنجز الثقافي، منه الأدبي، والجغرافي، والشعري، والمعرفة بخصائص الرجال والقوانين التي تتحكم بمسيرة التاريخ، وتفسر الظواهر العرقية والجنسية التي تسهم إسهاماً كبيراً في نشوء الأمم ونشوء التكتلات البشرية التي تتحول إلى بروز الدول الصغيرة والكبيرة، والتي تتنامى فتساعدها الظروف البيئية والاجتماعية، وأحياناً المستويات الثقافية للشعوب ـ لتتحول إلى امبراطوريات تجتاح بقاعاً شاسعة من الأرض، وشعوباً ترضخ لسيطرة القوي وتنضوي في ظل سيطرته. وأعود لأفسر عبقرية ياقوت الرومي، الذي ليس له من (الرومية) إلا أنه وُلد في بلاد الروم، الذي لا يُعلَم شيء عن تاريخ مولده، وكل ما يعرف عنه أنه أُخِذ، وهو حَدَث أسيراً من بلاد الروم، وحُمل إلى بغداد مع غيره من الأسرى فبيع فيها، فاشتراه تاجر اسمه (عسكر الحموي) ومن هنا جاءته نسبة (الحموي) فقيل له (ياقوت الحموي) ولا علاقة له بحماة هذه المدينة التي ظن بعض المتسرعين في الكتابة أنه ولد فيها أو عاش فيها فنُسب إليها. والتفسير الحقيقي لعبقرية الرجل نعزوه إلى عاملين داخليين، وعاملين خارجيين، أما العاملان الداخليان فهما الذكاء المفرط، والذاكرة القوية، ومن تفعيل هذين العنصرين أفرز هذه المنجزات الثقافية المتنوعة التي خلفها بعد رحيله إلى جوار ربه. أما العاملان الخارجيان فهما المهنة التي احترفها وهي الوِراقة. والسَّفَر الذي اضطره أن يجوب بلاد الشرق والغرب بحثاً عن العيش الكريم الذي يطمح إلى مثله رجلٌ أديبٌ مفكِّر يريد أن يعيش حياته بعيداً عن العواصف السياسية التي كانت تمور بها البلاد التي يحل بها في شرقي العالم الإسلامي وفي غَربيه. ومهنة الوِراقة جلبتْ له ثلاث منافع انتفع بها طوال حياته: الأولى: أنها كانت تمر على يديه سنويّاً عشرات الكتب، فيعمل على نسخها مأجوراً، وعملية النسخ هذه تبدأ برؤية موقع الحرف والكلمة والسطر، وتنتهي بفهم الجملة واستيعاب الفقرة، ولذلك ما مرت عليه فكرة من كتاب إلا استوعبها وتمثَّل مفهومها، وخزّن محتواها في ذاكرة شهدت تصانيفه على قوتها، ثم لما نضج محصوله الفكري بما كان قد خزَّنه أفرزه كتباً مبوبة مفصلة ممنهجة. الثانية: أنّ تجارته التي بدأت مبكرة في حياته، سواء في حياة سيده: عسكر الحموي أم بعد وفاته كان قسم كبير منها يدور حول شراء الكتب وإعادة بيعها، ورجل يمتهن هذا النوع من التجارة، لاشك أنه يعرف قيمة الكتب التي يتّجربها، معرفةَ قيمةٍ مادية منطلقة من معرفة قيمتها المعنوية، فهذه المهنة التجارية رفدت معرفته العلمية، والثالثة: أن مهنة نسخ الكتب أكسبته مهارة في تجويد الخط وتحسينه، ولذلك شاع في عصره استحسان الناس لمنسوخاته؛ لما تتمتع به من جمال الخط وحُسن تنميقه وزخرفة مخطوطاته، حتى اشتهر في زمانه خط يعرف (بالخط الياقوتي) نسبة إليه، وقد عَبَر هذا الخطُ الأزمان والدهور حتى وصلتنا نماذج منه، يصنّفها العالمون بجمال الخط من أجمل ما تناهى إلينا من مبدَعات الخط العربي وما أكثرها، والعامل الخارجي الثاني في حياة ياقوت هو عامل السفر القائم على الحل والترحال. فالرجل كان كثير الأسفار لا لما تتطلبه مهنة التجارة فحسب، والبحث عن المادة الكتابية التي كانت أكثر السلع التي يسافر من أجلها، ولكن للنَهَم العلمي الذي كان يدفعه للترحال، وللنزعة الغريزية التي بدأبها حياته من حب الأسفار وما تجلبه من فوائد من جهة ولما تشبع حسه السياحي من جهة أخرى، غير أن الأسفار كما يدرك ذلك الذين سافروا كثيراً هي مصدر ثقافة، وجالبة معرفة، والمعرفة التي يكتسبها المسافر من السفر معرفة ميدانية تطبيقية ـ إن صح التعبير ـ تفوق في غزارتها وعمقها المعرفة التي يجنيها المرء من القراءة فحسب. والأسفار التي اضطر أن يقوم بها ـ بطواعية أو بكراهية ـ هي التي زودته بكثيرٍ من المعارف الجغرافية التي يحفِل بها كتابُه (معجم البلدان)، فضلاً عن الشذرات المنتشرة في كتبه الأخرى من تعاليقه على عادات الشعوب وتقاليدها الاجتماعية. وأستميح القارئ العذرَ لأنني أطلت الحديث عن شيءٍ من عبقرية (ياقوت الرومي) لأضع أمام القارئ الصورة الحقيقية لأركان هذه العبقرية، ولأنفي ـ بشيء من الدراسة التحليلية الموضوعية ـ المقولة التي أطلقها المستشرقون، ومن تابع آراءهم من أبناء جلدتنا من الذين في قلوبهم مرض، من عَزو كل عبقرية في تاريخ الحضارة الإسلامية إلى عناصر غير عربية، فكل بارقةِ علم أرجعها هؤلاء إلى أصولٍ غير عربية، وحتى الشعر الذي هو فن العرب الذي برعوا فيه، أرجعوا البراعة فيه إلى من سموهم عمالقة الشعر كبشار بن برد وابن الرومي ومهيار الديلمي، ولَفَّقوا لأبي تمام الذي كان يلح على أصله الطائي نسباً يبتدئ بأبيه (تيودوسيوس) الرومي لا (أوس) العربي، ومثل هذا من نكران العبقريات في الحضارة العربية الإسلامية كثير، صَنَعه المُغرضون، وتابعهم عليه الغافلون في ظل غياب الوعي عند كثير من المثقفين العرب، ولقد آن الأوان أن تُكشَف الحقائق وأن تعود المياه إلى مجاريها بعد أن انحرفت عن هذه المجاري حقبة من الزمن. ولنعد إلى بلاد الشام وخاصة إلى الاسم الثاني الرديب لدمشق وهو (جِلَّق) لنرى ما هي جِلق كما رآها ياقوت، قال ياقوت عن جلق: «جِلِّق: بكسرتين، وتشديد اللام وقاف، كذا ضبطه الأزهري والجوهري، وهي لفظة أعجمية. ومن عرَّبها قال: هو من جَلَّق رأسه إذا حلقه، وهو اسم لكورة الغوطة كلها، وقيل: بل هي دمشق نفسها، وقيل: جِلِّق موضع بقريةٍ من قرى دمشق، قاله نصر، قال حسّان بن ثابت الأنصاري:
وقال حسان بن نُمير المعروف بعرقلة الدمشقي يذكرها ويصف كثيراً من نواحيها من قصيدةٍ وازَنَ بها قصيدة أبي نواسٍ فقال:
مدح بها صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقصده بها إلى مصر، كما فعل أبو نواس في قصيدة الخصيب، حيث قال:([7])
وقال بعض الشعراء، وجعلها مثلاً في كثرة المياه والخير وغناها عن الأمطار:
وجِلّق أيضاً: ناحيةٌ بالأندلس، بسرقسطة: يسقي نهرها عشرين ميلاً من باب سرقسطة، وليس بالأندلس أعذبَ من مائه، وهو يجري نحو المشرق، ويزعمون أنّ الماء إذا جرى مشرّقاً كان أعذبَ وأصحَّ من الذي يجري نحو المغرب، وكان بنو أمية لمّا تملكوا الأندلس، بعد انتقالهم من الشام، أيام هربهم من بني العباس سمَّوْا عدّة مواضع بالأندلس بأسماء مدن الشام، فسمَّوا إشبيلية حمص، وسمَّوا موضعاً آخر الرصافة، وموضعاً آخر تدمر، ثم تلاعبت به ألسنة أهل الأندلس فقالوا: (تدمير) وسمَّوا هذا الموضع جلق. وقال الأديب أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني:
قال ابن بسام الأندلسي، بعد إيراد هذا البيت: «جِلّق: وادٍ في شرقي الأندلس.» ([5]) المعرب من الكلام الأعجمي على حرف المعجم لأبي منصور الجواليقي (465ـ540)هـ الدكتور ف. عبد الرحيم 242. |