مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 110 السنة الثامنة والعشرون - حزيران 2008 - جمادى الآخرة 1429
Updated: الاحد, تشرين الأول 26, 2008 09:52 ص
فهرس العدد
 

بلاغة الحنين في قصيدة « لقد زارني طيف الخيال فهاجني» لأبي العـلاء المعـري ـــ د.لطفيّـة إبراهيـم

الملخص

يتخذ هذا البحث من قصيدة (لقد زارني طيف الخيال فهاجني) لـ«أبي العلاء المعري» مجالاً للقراءة والتأويل؛ لتحديد بلاغة الحنين فيها عبر أربع صور رئيسة هي: صورة الإبل الطراب، وصورة البرق، وصورة الريح، وصورة طيف الخيال، وهي صور يوازي تراكمها بوصفها مشوّقات مراكمةً للبعد عن الوطن، أو لأسباب البعد عنه.

ما البلاغة ؟.

يعد هذا السؤال مفتتح البحث، ومفتاحه الرئيس؛ لأن هناك فرقاً جوهرياً في تحديد ماهية البلاغة في الدرسين اللغويين: القديم والمعاصر؛ إذ يعيدنا الجذر اللغوي (بلغ) يبلُغ إلى الفصاحة، وحسن الكلام، أو حسن البيان، والمقدرة على الإبلاغ بعبارة اللسان كُنْه ما في القلب([1])؛ أي المقدرة على الإيصال، وقوة التأثير؛ لتحدد البلاغة عند علمائها بوصفها علماً تُدرَس فيه وجوه البيان([2]).

أما اصطلاحاً فالبلاغة:

(1ـ تقنيات وصور، تهدف إلى الإقناع بموضوع ما.

 2ـ صور / إشعارات / قواعد، ينسج حولها التعبير الأدبي.

 3ـ طرق أسلوبية، خاصة بكاتب / جماعة / فترة / نوع.

 4ـ وتتنوع القواعد البلاغية بحسب اعتبار([3]) الصور جمالياً.

 5ـ كما تكون (البلاغة) الأبعاد القابلة، بتصحيحها ـ الذاتي؛ أي بتعديل المستوى العادي للتكرار بخرق القواعد، أو بإبداع قواعد جديدة)([4]).

فالبلاغة علم تُدرَس فيه وجوه البيان: الصور بوصفها خرقاً للغة المعيارية، ليس بخرق القواعد، أو إبداع قواعد جديدة، بل عن طريق العلاقات الجديدة التي تجمع بين دوال تنتمي إلى حقول دلالية مختلفة؛ لتؤثر في المتلقي، وتنقل إليه التجربة الشعرية.

أما البلاغيون فقد حددوا مفهوم البلاغة في الدرس القديم بوصفها فناً، والفن يعني الصنعة، فهي صيغة تنتجها العقلانية المنهجية الإنسانية؛ وبذلك تكون البلاغة منهجاً يمس خاصية ملازمة للإنسان هي الكلام، وبوصفها منهجاً فإنها تتميز بمجموعة من القواعد؛ هذه القواعد ليست مرصوفة بطريقة تعسفية، بل لقد رُبط بينها من زوايا نظر قائمة على أساس منطقي. وتكوِّن هذه القواعد في مجموعها بناء معقداً يتكون هيكله من التبعية والمشابهة والتحديد، هذا يعني أن هناك طبيعة نسقية للبلاغة وظيفتها الأولى إنتاج نصوص حسب قواعد فن معينة.

أما المفهوم العلمي الحديث للبلاغة فهو مخالف لما سبق ذكره، إنه عكس المفهوم السابق إذ لم يعد الهدف الأول للبلاغة العلمية إنتاج النصوص، بل تحليلها([5])؛ وبذلك يمكننا أن نقول: إذا كانت البلاغة القديمة إنتاجاً للنصوص فإن البلاغة بالمفهوم الحديث منهج لتحليل النصوص؛ أي أنها تتمسك بوصف هذه النصوص، وربط آثارها المستخرجة ببعض الخصوصيات البنائية الكامنة فيها؛ وبذلك يمكن أن تصبح البلاغة المعيارية بلاغة وصفية، بل (بلاغة تاريخية وتأويلية تعكس بصورة نقدية وضعية تلقي الشارح (للنص) . إنها مؤهلة في هذه الحالة لتكوين أسس «نظرية تداولية للنص»)([6])؛ وبذلك يصبح المتلقي طرفاً مهماً في مفهوم البلاغة الحديثة؛ طرفاً تحدد فاعليته درجة التوتر التي ينتجها النص، وتكوّن الصورة التي يختلف مفهومها في الدرس البلاغي القديم عن مفهومها في الدرس المعاصر؛ لأنها في أولهما صورة بلاغية تقوم على المشابهة، وفي ثانيهما صورة شعرية، يؤسسها الانزياح، وتقوم على الاختلاف؛ وبذلك تكون البلاغة: فن العبارة نسقاً من الانزياحات اللسانية، وهي ثلاثة أصناف: انزياح في التركيب (العلاقة بين الدلائل)، وانزياح في التداول (العلاقة بين الدليل والمرسل والمتلقي)، وانزياح في الدلالة (العلاقة بين الدليل والواقع) ([7]).

فحدوث الصورة يؤدي حسب «جيرار جنيت» إلى فجوة؛ لأن (روح البلاغة كلها كامنة في الوعي بفجوة ممكنة بين اللغة الواقعية (لغة الشاعر)، ولغة محتملة (التي يحتمل أن يستعملها التعبير البسيط والعام)، تلك الفجوة التي تكفي أن تقوم في الذهن لكي يتم تحديد فضاء للصورة([8]).

فنحن في هذه الدراسة لن نستعمل مفهومي الكناية والاستعارة بوصفهما صورتين بلاغيتين بالمعنى التقليدي الضيق لهما، بل سنعدهما عملية أعم بكثير من الصورتين البلاغيتين المعروفتين، إنهما تعنيان عملية انزلاق متواصل للدوال عن مدلولاتها، تتم حسب علاقة تشابه، أو علاقة تجاور تتنتج على التوالي: استعارة أو كناية.

ـ 1 ـ

يعيدنا الحنين إلى الجذر اللغوي (حنن) الذي يرتبط دلالياً بالشوق والاشتياق، ونزوع النفس إلى الشيء أو تعلقها به؛ لأن (..الحنين: الشوق وتوقان النفس، والمعنيان متقاربان، حنَّ إليه يحنُّ حنيناً فهو حانّ،.. حنت الإبل: نزعت إلى أوطانها أو أولادها، والناقة تحنُّ في إثر ولدها حنيناً تطرَب مع صوت، وقيل: حنينها نِزاعها بصوت وبغير صوت، والأكثر أن الحنين بالصوت، حنَّ إليه: نزع)([9])، أما الشوق فمرتبط بالاشتياق والهيجان، ويعرف بأنه (حركة الهوى)، و(نزاع النفس إلى الشيء)، وهو نزاع يختص بالعشق فـ(الشُّوق: العشاق)([10]).

وجدير بالذكر في هذا السياق أن (النزاع)، أو (النزوع)، وهما مصدران مختصان لا يختصان بالعشق، بل هما مشتركان بين الهوى والشوق والحنين إلى الوطن، الذي أضحى بعيداً: (... وانتزاع النية بُعدها؛ ومنه نزع الإنسان إلى أهله والبعير إلى وطنه: حنَّ واشتاق، وهو نزوع...، وناقة نازع إلى وطنها بغير هاء...، وجمل نازع ونزوع ونزيع)([11]).

فبين الحنين والشوق والتشوق والنزوع صلات ووشائج توحدهما في تجربة واحدة، حتى يمكننا أن نقول: إن الحنين: الشوق: التشوق: النزوع تجربة تقوم على ثلاثة أطراف عوضاً عن اثنين: الذات الشاعرة المتشوقة للوطن، والوطن البعيد، وشيء غير الذات والوطن هو المشوِّق الذي يجب أن نتأنى في تحديد وظيفته وهويته، وهو أمر يضعنا وجهاً لوجه أمام المسببات: المشوِّقات التي يمكننا أن نصنفها في ثلاثة أقسام من حيث طبيعتها، وهي:

1 ـ عناصر طبيعية وهي النار، أو صورتها النورانية المتمثلة في البرق، والهواء المتمثل في الصَّبا، أو صورة الهواء الأكثر حركية المتمثلة في الريح.

2 ـ أصوات كائنات حية، تكون مهيِّجة للشوق، وهي في هذه القصيدة الإبل.

3 ـ طيف الخيال.

ويمكن أن نذهب إلى أن هذه المشوِّقات ليست أجساماً كثيفة، بل لا تعدو أن تكون ضوءاً خاطفاً، أو صوتاً يخترق الصمت، أو طيفاً عابراً لا تطبق عليه أجفان البعيد عن الوطن، إنها أجسام لطيفة، لا تكاد أن تكون أجساماً، بل قد تكون أوهاماً صريحة مثل طيف الخيال، فما هي العلاقات التي تنعقد بين مسبب الحنين والوطن من جهة، وبين المسبب والمبدع من جهة ثانية، أو بينهما معاً، لا سيما أن الوطن لا يوصف في التشوق، بل يحضر من خلال هذه العناصر المختلفة.

سنرى أنه يمكننا تحليل هذه العلاقات بوصفها استعارية أو كنائية، أو مزيجاً منهما، أو بوصفها قائمة على تعقد أكبر، وبإمكاننا تبعاً لذلك أن نتحدث عن (بلاغة الحنين) في شعر «أبي العلاء المعري»، وفي قصيدة (لقد زارني طيف الخيال فهاجني) بالتحديد.

إن عنوان البحث بلاغة الحنين يضعنا وجهاً لوجه أمام جملة وقع فيها الحنين موقع المضاف إليه للبلاغة، الأمر الذي نقله من حقل دلالي إلى حقل دلالي آخر، لا يكون فيه الحنين شكلاً من الأشكال، أو وظيفة من الوظائف، أو محتوى من محتويات المكتوب، أو معنى من معاني القصائد، بل يكون فيه شرطاً من شروط إمكان التجربة البشرية، شرط إمكان الكتابة ذاتها، لاسيما كتابة الشوق والحنين؛ وبذلك تصبح بلاغة الحنين فعل الكتابة، فيتحول الحنين إلى نص يختزل طاقة إبداعية سنعمل على تفكيكها لرصد مسببات الحنين التي حولت حركته إلى حركة كتابة.

1 ـ صورة الإبل الطراب:

تنفتح صورة النزوع إلى الوطن في النص الشعري على فضاء الحنين المضاعف: حنين الإبل إلى أوطانها، وحنين الشاعر إلى وطنه؛ فضاء ينفتح بدوره على فضاءات الأسئلة الاستفهامية، التي لا تنتظر جواباً، بل تجسد حالة عاطفية: انفعالية أثارها البارق المتعالي، وتستحضر الغياب المتأصل في اللغة، وفي النزوع إلى الوطن؛ ذلك لأن الدليل اللغوي يفترض غياب المرجع الذي يسميه، والنزوع إلى الوطن يفترض غياب الوطن، ويحيلنا إلى أن الذات الشاعرة تعيش في غربة، ورأت غربتها في غربة إبل (طَرِبن) ، يقول «أبو العلاء»:

طربن لضوء البارق المتعالي

 

ببغداد وهناً ما لهن وما لي

سمت نحوه الأبصار،حتى كأنها،

 

بناريه من هنَّا وثَمَّ، صوالي

إذا طال عنها سرّها لو رؤوسها

 

تُمدُّ إليه في رؤوس عوال

تمنَّت قويقاً ، والصَّراة حيالها

 

تراب لها من أينُق وجمال

إذا لاح إيماض سترت وجوهها

 

كأني عمرو،والمطي سَعالي ([12]).

والطرب: الشوق، والجمع من ذلك أطراب، قال «ذو الرمة»:

استحدث الركب عن أشيائهم خبراً

 

أم راجع القلبَ من أطرابه طربُ ([13]).

(... وإبل طراب تنزع إلى أوطانها...)([14]).

فالطرب انفعال لمدرَك من المدركات، يؤدي إلى حركة شوق إلى ما يخفيه ذلك المدرَك، كشوق هذه الإبل إلى أوطانها عندما أثارها البارق المتعالي، و(طربن): ماض يدل على حدث مضى، لكنه هنا يدل على الحال والاستقبال، وزنه (فَعِلن) وهي صيغة تمتاز بدلالتها على الأحزان والأفراح([15])، لكنها في هذا السياق تختص بالدلالة على الأحزان، متجاوزة دلالتها المعهودة في الارتياح مما يحرك في النفس الطرب، منفتحة على حركة شوق ينجر منها تطريب، والشوق يفترض غياب موضوع الشوق من جهة، ويؤدي إلى محاولة استحضاره عبر الكتابة استحضاراَ يحمل في ثناياه شوقاَ إلى الكتابة نفسها، وشوقاً إلى استكمالها؛ وبذلك يكون الشوق مبدأ مخترقاَ للحب والكتابة؛ إنه حب الوطن، وحركة الكتابة نفسها.

لكن الشوق لا يتنفس إلا بمثير يحركه، ويؤجج ناره، فما المثير، أو المشِّوق هنا؟، إنه الصورة النورانية للنار متمثلة في البرق: ضوء البارق المتعالي؛ إذ تثير قوة البرق، وسطوعه الإبل، وتهيجان شوقها إلى الوطن، وشوق الذات الشاعرة أيضاَ، لا سيما أن هذا البرق أتى على صيغة اسم الفاعل (البارق)، التي تؤخذ من الفعل أساساً؛ لأنها وصف، وتدل عل حدث وزمن، ودلالتها على الزمن ترتبط بالحال والاستقبال؛ أي أنها تدل على الاستمرار، ولقد أتت هذه الصيغة في تركيب الإضافة (لضوء البارق)؛ لتحدد دلالتها في السياق بالتخصيص والتعريف، فتفيد القوة والمتانة من خلال اجتماع وحداتها([16]).

ويأتي دال (وهناً)، الذي يعيدنا لغوياً إلى منتصف الليل، أو بعد ساعة منه؛ ليعزز دلالة الأحزان بإضفائه دلالات جزئية إليها تتمحور حول محورها العام: الغربة، الوحدة، الهموم، الاكتئاب، الشوق، الحنين، ولبيان شدة أثر البرق بوصفه مشوِّقاً للإبل، أتى به الشاعر في منتصف الليل، ولا شك في أن ظلمة الليل تزيد في وحشة المشوق، لا سيما إذا ابتلي الإنسان بالبعد عن الوطن، فالليل هو المجهول، والبرق من حيث هو خيط مزدوج الدلالة: فهو الخيط الذي يسري، فيصل بين الشاعر والوطن، ولكنه في الوقت نفسه الخيط الذي يفصل بينهما، فيذكر بالافتراق، ويكون موحشاً لذات تهولها ظلمة الليل، أو مذكراً بانشطارها إلى مفارق وكاره للافتراق، متشوق بالبرق، ومستوحش منه؛ إذ كلما كان الليل حالك السواد كان أثر البرق أشد؛ وبذلك يثير البرق الشوق إلى الوطن، فيستثير آلاماً دفينة هي آلام الشوق إلى المفتقَد الأول: الوطن: الأم، فيرتسم فضاء ما بين الأم وابنها، هو فضاء الانفصال بعد اتصال قديم: جزء من ماض، والماضي لا يعود، وكأن الشوق ذات أخرى لها فعل وحركة، ولها باطن يعسر معرفة كنهه.

وتأتي بنية الاستفهام (ما لهن وما لي؟)، والاستفهام بنية طلبية تقدم صيغة (استفعال) مؤثراً على دلالته الوضعية في طلب الفهم بأدوات مخصوصة؛ إذ تفتتح بنية الاستفهام بـ(ما)، التي تتحدد مهمتها ـ بالإضافة إلى التصور ـ بكشف حقيقة الدال الذي تتسلط عليه؛ أي أنها تفسر مدلول الجملتين: مالهن وما لي؟، هذا يعني أن هناك منطقة مجهولة تسعى الأداة إلى الكشف عنها مخترقة صمت البيان؛ لتختزل حالة المشوق إلى الوطن في استفهام هو استفهام الواله، الذي يحمل في ثناياه دلالة بيان الحال؛ وبذلك يحمل الاستفهام في السياق الشعري معنى التوجع، الذي يحيلنا إلى معاناة الذات الشاعرة في الغربة، فيتعجب الشاعر من حال الإبل ومن حاله؛ إنهما حالتان أثارهما البرق؛ إذ لما حنت الإبل إلى أوطانها حين رأت البرق، أثارت شجو الشاعر، وبعثته على الحنين، وهي دلالة تتداخل مع دلالة ينتجها قول «عبد الله بن أرطاة المحاربي»:

حنّت إلى برق فقلت لها قري

 

بعض الحنين فإن شجوك شائقي([17]).

فتتجاور الدلالتان معاً في فضاء البنية الذهنية للمتلقي، بل تتعالقان، وتتفاعلان؛ لتجسدا وحشة الغربة التي تعيشها الذات الشاعرة في بغداد؛ لأن الشَّجن (الهم والحزن)، و(حركة النفس)، و (الحاجة أينما وجدت)([18])؛ أي الحاجة الملحة، وتمتد صورة البرق في البيت الثاني، فتتولد عن الصورة الأولى صورة الطموح: طموح العودة إلى الوطن؛ إذ يحيلنا الضمير المتصل في الدال (نحوه) إلى ضوء البارق، الذي سمت الأبصار إليه، والأبصار جمع، مفرده (البصر)، الذي يحيلنا إلى العين المجردة، وقوة الإبصار، وقوة الإدراك؛ أي أنه يجمع بين البصر والبصيرة؛ الرؤية والرؤيا، والبصر هنا بصر الإبل، وبصيرة الذات الشاعرة، بل بصر وبصيرة كل ذات تعيش في غربة.

ولقد استحضرت صورة البرق صورة النار؛ ليكثف الشاعر دلالة الشوق والحنين إلى الوطن مستحضراً دالين للمكان: (هنَّا) إشارة إلى ما قرب، وهو بغداد، و(ثَمّ) إشارة إلى ما بعد، وهو الشام([19])، فضوء البارق قوي، منتشر، مستطير في الأفق، لما لمع شخصت نحوه أبصار مَنْ ببغداد، وأبصار مَنْ بالشام، فأحدقت به كما يحدق المصطلون بالنار، والتحديق يعيدنا إلى الأبصار والإبصار والتركيز لحرص النفوس عليه، وشدة تشوفها إليه؛ لأن المصطلي بالنار يؤججها، ويذكيها لما له من الرغبة فيها، لكن النار تدفئ المصطلين بها، وتبدد البرودة التي يشعرون بها، أما البرق فيذكي نار الشوق: نار الحنين إلى الوطن، فلا يبدد برودة الغربة، بل يزيد الأعماق برودة وحنيناً.

فإذا كانت (الأنا)، أو (الذات) هي مبتدأ الحنين ومنتهاه، فلا بد من تتبع التحولات التي ارتدتها تلك الذات في القصيدة، وهي ذات تؤكد أن الحنين حنين مضاعف: حنين إلى الوطن من جهة، وحنين إلى اختراق الحجب من جهة ثانية.

وتتكثف البلاغة؛ لتجسد شدة حنين الإبل إلى أوطانها، واشتياقها إليه بأمنية مفادها أن تُقطع رؤوسها، وتُرفع في عوالي الرماح؛ لتنظر إلى ضوء البارق كلما ابتعد نحو الشام، ولقد تجلى هذا التكثيف في بنية التمني، وهي بنية تتأتى أولويتها من مؤشرها الإعلامي (التمني)، أو كما يقول البلاغيون الأحوال القلبية، والبعد الخارجي المتمثل في الإنتاج الصياغي، الذي يعتمد على أداة بعينها هي (ليت)، التي تتحول في المستوى العميق إلى (أتمنى)([20]).

ولقد وظف «أبو العلاء» هذه البنية في بناء التجربة الشعرية؛ لأنه لم يتعامل معها بوصفها وحدة ساكنة، مغلقة، بل تعامل معها بوصفها تتبع عملية تكون النص الشعري سائراً من تولد الفكرة إلى تحققها التام سواء أدل عليها بدوال مباشرة أم بدوال غير مباشرة:

إذا طال عنها سرّها لو رؤوسها

 

تمد إليه في رؤوس عوال ([21]).

إن الفعل (سرّ) يرتبط دلالياً بالفعل (ود) ، والفعل (ود) إذا لحقت به (لو) تحررت من شرطيتها في السياق، وهيأت إنتاج (التمني) على مستوى البنية العميقة، التي تجسد لنا شدة حنين الإبل إلى أوطانها؛ وبذلك تتنج (لو) التمني بمعونة السياق، الذي يعمل على تفريغها من دلالتها الأصلية، وشحنها بدلالة التمني، وهي دلالة تعضدها، وتؤكدها صيغة الشرط غير الجازم (إذا طال عنها سرها.. .) ؛ إذ إن (إذا) ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط، والأمنية رغبة في تحقق شيء في المستقبل، كما يعبر فعلا الشرط بصيغة الماضي عن شيء لم يُنفذ كأمنية لم تتحقق، أو كأمل محبط، ولا ينفصل الفعل تمنت في تركيب (تمنت قويقاً) دلالياً عن الفعل (سرها) في البيت السابق؛ لأن الشاعر يتابع تجسيد أمنية الإبل، مصوراً شدة نزوعها إلى أوطانها؛ ذلك لأن صيغة (فعّل) (للتكثير غالباً؛ وذلك كأن يكثر فاعل فعّل أصل فعله)([22]).

فأمنية الإبل قويق: نهر بحلب، ترغب فيه، وهو بعيد عنها، وترغب عن الصَّراة: نهر ببغداد، وهو قريب منها، وماؤه عذب، هنا تشف بنية التمني عن تعجب الشاعر من حال الإبل تعجباً يدفعه إلى الدعاء عليها، فتدخل بنية الدعاء (تراب لها من أينق وجمال)؛ التي تعني فلا شربت بعد هذا ماء، بل كان لها بدل الماء التراب، في علاقة مع بنى الصورة الشعرية؛ لنستشف منها خيال رغبة في موت هذه الإبل غير المنصفة، الراغبة عن شرب الماء، فهي جسد بلا روح في بغداد؛ ذلك لأن زمن التمني، وزمن وجودها قرب الصراة واحد، هذا ما عبرت عنه واو الحال في قوله (تمنت قويقاً والصراة حيالها)؛ لتؤكد الدلالة العامة بعدم انسجام الإبل مع محيطها، بل عدم انسجام الذات الشاعرة مع المحيط الجديد في بغداد؛ وبذلك تؤكد بنية التمني ركائز دلالية على مستوى البنية العميقة، وتشف عن أمر غير قابل للتحقق؛ لأن (بنية التمني تتعلق إنتاجياً بما لا يمكن حصوله، وليس هناك مطمع فيه، ومن هنا صح تعلقها بالزمن الماضي من حيث وقوع حدث فيه، وهو غير ممكن تنفيذياً)([23]).

فأمنية الإبل أن ترد قويقاً؛ أن ترد مورد الحياة: الوجه المقابل الذي يعكس الصورة الأخرى لها، وهي صورة الموت: الغربة؛ أمنية الإبل هنا ترتد في العمق إلى إنتاج مفهوم دلالي يجسد فضاء المسافة المكانية، التي تفصل الإبل عن أوطانها، ويحيلنا في الوقت نفسه إلى أن الوجود في الوطن لم يكن محققاً ساعة التمني، فالإبل ليست في موطنها الأصلي، وتتمنى الوجود فيه، كأن الشاعر يستدعي قويقاً مطلوباً دلالياً لا يكون حاصلاً وقت الطلب.

وتتناغم صيغة الدعاء (تراب لها من أينق وجمال) دلالياً مع صيغة التمني؛ لتبين جهل الإبل بقيمة الصراة، وعدم إنصافها، ولتفتح الذاكرة البلاغية بوصفها تخزيناً للمعطيات في الذاكرة على بيت العراقيات:

أفق من جوى يا أيها المهر إنني

 

وإياك في أهل الغضا غُرُبان

يسوقك ماء بالأباطح سلسل

 

وقد نشجت بالأبرقين شناني([24]).

ويستمر لمع البرق مشوقاً من المشوقات التي تثير الإبل، حتى ولو كان إيماضاً؛ أي يلمع لمعاً خفياً، ضعيفاً ، ثم يختفي، ثم يومض، ولم يعترض في نواحي الغيم، فمهما بلغ خفوته، وضعفه، فهو قوي التأثير في الإبل، دلالة على إفراطها قي الحنين إلى وطنها، وعلى أن نار الشوق والاشتياق إليه لا تنطفئ، بل تتحول إلى نار، هي دافع معرفة ورؤية تجسد للمتلقي حب الشاعر للوطن، فتنتقل عبر تجربته الشعرية من عالم الذات الضيق إلى العالم الفسيح: عالم الإبداع بوصفه كتابة من نوع آخر، تؤثث الفراغ الفاصل بين الشاعر والوطن، وتمد جسر النص مؤثثة الجسر، الذي تمده (إلى) موضوع الشوق: وفي هذا الجسر الذي تمده (إلى) ينفتح باب الشعر مجسداً بلاغة الحنين في توظيفها حكاية عربية قديمة، تقول: إن العرب تذكر الغول والسعلاة، ويدعون أنهم ينكحونها، ومن ذلك ما زعموا أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة تميم تزوج سعلاة، فقيل له: ستجدها خير امرأة ما لم تجد برقاً، كأنهم حذروه من حنينها إلى وطنها إذا رأت البرق، فكان عمرو إذا لاح برق سترها عنه، وولدت له أولاداً، ثم لاح البرق ليلة، وغفل عمرو عنه، فقعدت على بكر، وقالت:

أمسك بنيك عمرو إني آبق

 

برق على أرض السعالي آلق

وسارت عنه، فلم يرها بعد ذلك، فقال عمرو في ذلك شعره الذي يقول فيه:

رأى برقاً فأوضع فوق بكر

 

فلا بك ما أسال وما أضاعا ([25]).

ولقد كان هذا التوظيف حجر بناء أساسي في تدعيم بناء صورة شوق الإبل، ونزوعها إلى أوطانها، فأصبح الشاعر عمرواً، وأصبحت المطي سعالي، فكان الشاعر كلما ومض برق ومضاً ضعيفاً حجب رؤية الإبل حتى لا تراه، وتحن إلى أوطانها، فتفعل فعل السعلاة مع عمرو، وتتركه وحيداً في الغربة؛ وبذلك يتجاور في فضاء النص البعد عن الوطن، واتساع باب الشعر، وربما يكون الثاني ناتجاً عن الأول؛ لأن الشعر يقوم واسطة بين المشوق والشائق؛ واسطة تذكر بالمسافة الفاصلة بينهما، وتحاول الوصل بينهما في آن، ويصبح مولداً للقصيدة التي يضمن فيها الشاعر شعر سابقه في إثارة البرق الحنين إلى الوطن.

ويأخذ حنين الذات الشاعرة في الظاهر منحى آخر بصورة تجعلها مع صحبها من ذوي الحلوم والعقول والوقار، لا يجزعون بمفارقة الوطن، أما هذه الإبل فلم تفدها أسنانها حِلماً، ولا أكسبها الزمن معرفة وعلماً، فالشوارف منها كالصغار في أحلامها وطباعها؛ لذلك تفرط في حنينها إلى الوطن، ولم تجر مجرى الذات الشاعرة في صبرها على الحنين؛ أي أننا حلُمنا ونحن كهول، وهذه قد خفّت وكان سبيلها أن تحلم؛ لأنها مسنّة، وهذه دلالة تدور حول قول الشاعر:

لا تصبر الإبل الجلاد لفرقة

 

حتى تحنّ، ويصبر الإنسان ([26]).

مؤكدة إسراف الإبل في الحنين إلى أوطانها، مشتقة مثلاً من أمثال العرب «أحنّ من شارف»؛ لأن المسنّة من النوق أشد حنيناً إلى ولدها من غيرها، حتى كأن المسنّ: الضعيف منها فصيل مُنِع من الرضاع؛ أي فُطِم عن أمه، فهو ذو حنين متوال إليها لقلة صبره على فراقها، وما الأم هنا إلا الأم الكبرى: الوطن، الذي فارقه الشاعر جسداً، وعاش فيه روحاً وأحلاماً.

ويأتي تركيز الشاعر على الفعل حلُمنا بصيغة فعُل؛ لأن هذه الصيغة تدل على الطبائع لدلالتها على صفات طبع عليها الإنسان، وأصبحت غريزة فيه مخلوقة معه، ودلالته هذه جعلته لا يكون إلا لازماً؛ لأن الغريزة تكون لازمة لصاحبها، ولا تتعداه إلى غيره، وإذا كان له لُبْث ومُكْث مثل حلُم، فهو يجري مجرى الغريزة؛ لأن هذه الصفات ليست مخلوقة في الإنسان فطرية فيه، وإنما طُبِع عليها، واكتسبها من الوسط الذي يعيش فيه وهي غير ثابتة، وبالتالي فلا تلبث أن تزول، ولاتصاف صاحبها بها لفترة زمنية، ومكثها فيه عوملت معاملة الغريزة، وصيغت بصيغتها([27]).

أما بنية الأمر في قول الشاعر:

فآبك هذا أخضر الجال معرضاً

 

وأزرق، فاشرب وارع ناعم بال ([28]).

فتتعالق مع بنية التمني في البيت الرابع (تمنت قويقاً والصراة حيالها...) ؛ لتجسد بلاغة الحنين المكتوبة، التي تجمع بين المتناقضات في التجربة الشعرية؛ إذ إن الشاعر بعد أن دعا على الإبل بأن تأكل التراب؛ لتموت يطلب منها الآن أن تتجاوز حالتها، وتدع حنينها، وتسلو عن وطنها، وتنعم بنعم الله عليها رعياً وشرباً طلباً للحياة، وكأن بنية الأمر هنا خرجت إلى دلالة أخرى هي دلالة التعجب، أو التمني.

إن هذه الإبل ألهبت بحنينها نفوس الرجال، وإن ذُهِلت عما هم فيه، أو غفلت عما شغلها عن الانصراف عن الماء، وفي الوقت الذي يرخي فيه دال (أجنّ) ظلاله الدلالية على الشطر الشعري الأول فإن دال (ألهبت) يزيح تلك الظلال، ويؤجج في النفوس حنين الرجال إلى أوطانها حنيناً يتجاوز نسيان الإبل ماء وطنها إن هي شربت من ماء دجلة الذي سيعمل على إفراغ قلوبها من الحنين، أو جنون الحنين؛ وذلك لأننا نرى شبهاً بين الدالين: الحنين والجنون، الذي عد اسماً من أسماء الحب، فبين (جنّ) ، و( حنّ) تجانس صوتي ودلالي يتصل بالجنون ذاته، كما يتصل بالحن: (الحنّ، بالكسر: حي من الجن، يقال: منهم الكلاب السود البهم.. .، الحن: سفِلة الجن أيضاً وضعفاؤهم.. . ، ويقال: الحن خلق بين الجن والإنس.. . ، ويقال: مجنون محنون، ورجل محنون أي مجنون.. . ، المحنون: الذي يُصرع ثم يُفيق زماناً)([29]).

وتتكثف بلاغة الحنين في قول الشاعر:

تلون زبوراً في الحنين منزلاً

 

عليهن فيه أن الصبر غير حلال

وأنشدن من شعر المطايا قصيدة

 

وأودعنها في الشوق كل مقال

أمن قيل عود رازم أم رواية

 

تتهن عن عم لهن وخال

كأن المثاني والمثالث بالضحى

 

تجاوب في غيد رُفعن طوال

كأن ثقيلاً أولاً تزدهـى به

 

ضمائر قوم في الخطوب ثقال ([30]).

 ففعل التلاوة مسند إلى غير فاعله لإسناده إلى الإبل؛ ليرفع الحنين إلى منزلة مقدسة، إنه زبور منزَّل على الإبل باستمرار؛ لأن صيغة (منزل) مفعّل تدل على وصف المفعول بالحدث وصفاً متجدداً، وبالتالي تدل زمنياً على الحال والاستقبال؛ وبذلك يؤنسن الشاعر الإبل، ويكثف دلالة الحنين؛ لأن هناك زبوراً مختلفاً عن الزبور المعهود الذي غلب على صحف داود عليه السلام؛ إنه زبور الحنين المنزل على الإبل، ويتجلى اختلافه بقلب قيم الزبور الديني، التي تدعو إلى الصبر، فهذا الزبور من تعاليمه أن الصبر غير حلال، بل هو حرام، مع أن الإبل مشهورة بالصبر والجلد، وقوة التحمل، ويأتي الفعلان (تلون)، و(أنشدن)؛ بصيغة الماضي؛ ليدلا على حدث حدث، مع فارق دلالي بين القراءتين: ف (تلا الكتاب وغيره: قرأه)، أما أنشد الشعر فقرأه على إيقاع واحد رافعاً به صوته.

فالقراءة الأولى: التلاوة قراءة صامتة، متأملة، خاشعة، فيها تدبر للمعاني، أما القراءة الثانية: الإنشاد فتعيدنا إلى جو طقوسي، تنشد فيه الإبل قصيدة مختلفة عن القصائد المعهودة: إنها قصيدة من شعر المطايا اختصرت كل ما يمكن أن يقال في الشوق، تنشدها الإبل بتلحين وعلى إيقاع واحد مجسدة بلاغة التشوق والحنين في ديوانها الشعري.

فالمبدع يختار دواله بعناية فائقة؛ ليؤثر في المتلقي، ويجعله يعايش تجربة الغربة، ويعاني مفرادتها: الحنين، والتشوق، والاشتياق... ، أو بالتحديد النزوع إلى الوطن؛ وبذلك تسهم درجة التوتر التي ينتجها النص في مضاعفة فضاء بلاغة الحنين في القصيدة، التي خص الشاعر فيها الزبور بالذكر لما ورد في مزامير داود عليه السلام (أنه كان إذا قرأ أصغت إليه البهائم لحسن صوته) وحنين الإبل يشبه بالمزامير؛ لأنه يشجي مَنْ يسمعه؛ وبذلك فُسِّر قول «عنترة» في وصف الناقة، التي لما بركت أنّت، فكأن معها قصباً تزمر فيه:

بركت على ماء الرِّداع كأنها

 

بركت على قصب أجش مهضم ([31]).

وجدير بالذكر في هذا السياق أن صوت الإبل يسمى سجعاً، كما يسمى الكلام الذي له فواصل ترجع إلى حرف واحد، فسماه «أبو العلاء» شعراً: شعر المطايا؛ لأنه يرجع إلى مقاطع على مثال واحد، كما يرجع الشعر، والعرب تقول: سجعت الناقة إذا مدت صوتها بالحنين على جهة واحدة، والسجع صوت الحمام، هذا يعني أن (سجع الحمام)، و( حنين الإبل) مصطلحان متعلقان بفن الكتابة، الأول يعني نوعاً من الكتابة الموقعة، ليست بالشعر، ولكنها تحاكي الشعر، والثاني يعني مجموعة من الصور الشعرية يمكن عدها غرضاً أساسياً من أغراض الشعر هو الحنين إلى الأوطان.

الشاعر يمد صوته بالحنين، كما تمد الناقة الواله صوتها منادية، يود أن يكون صوته حبلاً يصل بينه وبين المعشوق: الوطن؛ وبذلك تقوم الكتابة: كتابة الشوق على حركة أخرى هي حركة حدوث المسافة والاتساع الذي يجعل الإنسان منفصلاً عن الحضور، مبتعداً عن ذاته؛ هذا الاتساع هو المكتوب في المسافة التي يحدثها حرف الجر (إلى) بين المشتاق وموضوع شوقه: الوطن.

ويأتي تساؤل الشاعر في قوله: (أمن قيل عود رازم...)؛ ليؤكد نسبة الشعر إلى المطايا، ويترك باب الحيرة مفتوحاً أمام قائله: المسند إليه، فهو المجهول؛ لذلك جاء التساؤل عنه أهو عود... أم أتى الشعر رواية؟.

فالشك في هذا التركيب مسلط على مَنْ فعل الفعل، وليس في الفعل ذاته؛ وبذلك تتوجه فاعلية السؤال إلى الفاعل، الأمر الذي يدفعنا إلى القول: إن مركز الثقل الإنتاجي يختلف تبعاً للبعد المكاني للدال عن همزة الاستفهام؛ أي أن التردد يقع فيه، أو أن الشك يدور حوله، وهو فاعل، والفاعل ركن أساسي في نظام الجملة العربية؛ أي أن له سلطة لغوية تفضي إلى سلطة دلالية تجسد كثافة بلاغة الحنين، فإن كان القائل عوداً رازماً مسناً لا يقوى على القيام من الإعياء والهزال، فهذا يعني أن هذا العود قضى فترة طويلة من الزمن بعيداً عن وطنه، (والعرب تسمي الجمل البازل الذي اعتاد الأسفار عالماً)([32])، كما يعني أن لهذا الرازم سلطة على الأجيال التالية، التي تستمع إليه لعلمه، وخبرته، ومكانته، ومعاناته، التي أبدعت هذا الشعر، فتجربة الحنين عنده تبعث حنين الإبل الأخرى إلى أوطانها، أما إذا كان هذا الشعر رواية عن عم للإبل، أو خال، فهذا يعني تجذر شعر الشوق والاشتياق والحنين إلى الوطن في قاموس الإبل، التي يشبه الشاعر حنينها برنات العيدان التي يغنى فيها لأصواتها الشجية، التي تثير الشجن، والشجن هو الحبيب بوصفه مُفتقرَاً إليه، والحبيب هنا وطن مُفارَق، عليق بالنفس، ولكنه على أية حال بعيد المنال كالحبيب؛ وبذلك يكون الشجن شوقاً إلى الوطن.

فأنين الإبل التي تثار من مباركها للنهوض ضحى، وهي متعبة، ومحتاجة إلى الراحة يشير إلى الألم والمعاناة التي تعانيها الإبل في الغربة، وهي مفردات أو عناصر تدخل في علاقات جديدة مع بنية الحنين؛ لتكثف بلاغته، وتتعالى موسيقاه حتى يستخف أحلام قوم حكماء، ويثيرهم، ويحرك في أعماقهم النزوع إلى الوطن تحريكاً يطرد النوم من العيون، فإن مر بها النوم رأى النائم وطنه لكثرة ما يمثله في اليقظة، فإن انتبه بكى شوقاً إليه، ولقد عبر الشاعر عن هذه الدلالة مستغلاً قصة السامري، فكأنه سامري إن لامس النوم جفنه اغتسل بالدمع، وتطهر به؛ لذلك تبرز صيغة التمني في قول الشاعر:

فليت سنيراً بان منه لصحبتي

 

بروقي غزال مثل روق غزال ([33]).

 لترتد في العمق إلى (أتمنى سنيراً ظاهراً) ، وينتج المفهوم أن (سنيراً لم يكن ظاهراً) ساعة التمني، وأن ظهوره أمر غير قابل للتحقق؛ لأن بنية التمني تتعلق إنتاجياً بما لا يمكن حصوله؛ إذ كيف يمكن تحقق تمني الشاعر أن يظهر لأصحابه، وهم بقرني غزال، شيء يسير جداً من سنير، فتقر بقرب الوطن عيونهم، وتهدأ بتولي السفر نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، ولكن أين الذات الشاعرة من تمني رؤية سنير؟، أتتكفل (الياء) في قوله لصحبتي بوصفها ضميراً من ضمائر المتكلم، وهي ضمائر شخصية دلت على ذات واعية مستقلة في إرادتها، وتمتاز بصفات تميزها عن غيرها بحضور هذه الذات ([34]).

فإن كان «أبو العلاء» يتمنى ظهور سنير لصحبه، فلمَ لا يتمناه لنفسه، ألأن العقل يحكم بامتناع وقوع هذا الظهور؛ لأن زمنه قد انتهى أم لأنه ضرير ؟، ألأن شوقه لا يبرد برؤية سنير، بل يبرد بوصوله السريع إلى بلاد الشام؟:

ومَنْ لي بأني في جناح غمامة

 

تُشبهها في الجنح أم رئال ([35]).

ومَنْ أسرع من جناح غمامة تسرع به إلى وطنه كإسراع النعامة إلى فراخها عند إقبال الليل؛ لأنها تكون أسرع، والعرب تشبه السحاب بالنعام، من ذلك قول «عبد الرحمن بن حسان»:

كأن الرباب دُوْين السحاب

 

نعام تعلق بالأرجل ([36]).

ولقد خص الشاعر تلك الغمامة في الجنح؛ لأنه يريد بها الغمامة التي طربت ببرقها الإبل وهناً ببغداد...؛ وبذلك يبرز البرق بروزاً غير مباشر بوصفه مؤججاً للشوق، والشوق حنين إلى الغائب: الوطن، وهذا يؤكد رغبة الشاعر المتشوق في خلق حبل يربط بينه وبين الشائق، قد يكون دائرة حضور واتصال، إلا أن هذه الدائرة تبدو لنا دائرة افتقار بقدر ما هي دائرة اتصال، والجسر الذي يمده المشتاق على (إلى) يبدو جسراً فاصلاً بقدر ما هو واصل؛ وبذلك تكون عملية التشوق استحضاراً هشاً لغائب متجذر في الغياب.

2 ـ صورة البرق:

إن أدبية النداء تتأتى من تخلصه من أصل المعنى؛ ليولد إنتاجية بديلة، سواء أكان التوليد على مستوى السياق أم على مستوى صيغة بنية النداء ذاتها، من ذلك قول الشاعر:

فيا برق ! ليس الكرخ داري، وإنما

 

رماني إليه الدهر منذ ليال

فهل فيك من ماء المعرة قطرة

 

تغيث بها ظمآن ليس بسال ؟ ([37])

فـ( يا) حرف موضوع لنداء البعيد حقيقة، أو حكماً، وقد ينادى به القريب توكيداً، وقيل: هي مشتركة بين القريب والبعيد؛ وبذلك تحضر صورة البرق هنا بوصفه يملك صلاحية تؤهله لأن يدعى للإقبال والمحادثة، وتفهم بعد الشاعر عن وطنه، فكثف بذلك دلالة تتمحور حول دعوة البرق بلمعانه من ناحية الشام للشاعر بإثارة الشوق والحنين للعودة إلى الوطن الغائب؛ الحاضر من حيث أن المتشوق به البرق يعوضه، وهذا ما تقتضيه فرضية التكثيف؛ إذ يتضح التكثيف، ويصبح مستقلاً عن الاستعارة والكناية، وقادراً وحده على أن يكون مفهوماً وصفياً في هذه المشوقات.

هذه إذن بلاغة التشوق والحنين التي تبين علاقات الحضور والغياب المتضمنة في نص التشوق، الذي تتقد جذوته بتكرار البرق (فهل فيك...) بوصفه ضميراً متصلاً، فتبرز النار عامل الاحتراق الأساسي في الطقوس الدينية بوصفها عاملاً للتطهير، وهي صورة تستدعي صورة الظمأ، والشوق إلى الماء، وكأن الشاعر لجأ إلى نموذج العطش للإيحاء بجذوة الشوق، وناره المعتملة؛ لأن الشاعر ليس بسالٍ، فهل يراد بالاستفهام هنا النفي: نفي وجود قطرة واحدة من ماء المعرة: بلد الشاعر في هذا البرق تغيث ظمآن ليس بسالٍ، بل تغيث الذات الشاعرة التي لم تنس الوطن أبداً؟.

يبرر هذا التساؤل دخول (هل) في صورة البرق على الخبر (شبه الجملة: فهل فيك..) ، وبروز صيغة المضارع (تغيث بها) بوصفها نداء من يخلص من شدة أو يعين على دفع بلية، يطلب الإغاثة والنصرة بقطرة ماء واحدة لعلها تشفيه مما هو فيه، مؤكداً عدم نسيانه وطنه بالباء الزائدة في خبر ليس؛ لأن (الباء) هنا زائدة للتوكيد، فالكرخ ليس وطنه، بل رماه إليه الدهر منذ ليال؛ إذ خرجت (منذ) عن معنى الظرفية؛ لتصبح حرف جر، معناها ابتداء الغاية، فالشاعر لم يتخذ الكرخ داراً، ولم يرض به مقراً أخيراً، بل هو مزمع على الرحيل عنه، متوجع لفراق الشام.

3 ـ صورة الريح:

لا تنفصل صورة الريح التي تتسم بالقدرة على السريان والدوران بوصفها طاقة، وحركة تحمل المشتاق نحو ما يشتاق إليه: الوطن عن المشوقات التي توظفها الذات الشاعرة لبلورة بنية الحنين، فكيف إذا كانت هذه الريح جمعاً (الأرواح)، تتجاذب الشاعر، وتدور به، فتزيده ضياعاً، وغربة، وشوقاً يفضي إلى اشتياق باعث للشوق، وكأنه عود على بدء، حتى تحط هذه الأرواح الشاعر على يد ريح بالفرات شمال، فـ(حتى) تفيد( انتهاء الغاية)؛ لأنها مرادفة ل(كي) التعليلية، ولقد خص الشاعر ريح الشمال بالذكر جرياً على مذاهب العرب؛ لأن وطنه الذي حن إليه إنما كان بالشام، وكانت العرب تسمي الريح الشمالية شآمية والجنوبية يمانية، وشهرا بذلك حتى صارا كالعلمين عليهما، من ذلك قول «ذي الرمة»:

نلوث على معارفنا وترمى

 

محاجرنا شآمية سَموم ([38]).

وقول «جرير»:

وحبذا نفحات من يمانية

 

تأتيك من قبل الريان أحيانا

هبت جنوباً فذكرى ما ذكرتكم

 

عند الصفاة التي شرقي حورانا([39])

وتتعقد العلاقة بين المشتاق وموضوع الشوق ،وواسطة التشوق إذا تعلق الأمر بالبعير المتداخل مع الصبا؛ لأن هذين العنصرين ليسا من متعلقات المعشوق، بل إن كلاً منهما يمثل كائناً مستقلاً بذاته، أو طرفاً آخر من أطراف حب الوطن والتشوق إليه، ثم إن العلاقة البلاغية الكنائية أو الاستعارية تشمل الذات المتشوقة نفسها، فيقوم التشوق بالبعير، أو الصبا على علاقة التشابه والمقارنة، والاشتراك في المنزلة في الحنين، وفي ترجمة الحنين إلى حنين بالمعنى الحيواني الحسي للكلمة، وهو هنا سجع البعير، والتشابه المؤسس لهذه العلاقة متعددة الأطراف: تشابه بين الذات الشاعرة والبعير، وتشابه بين الوطن وإلف البعير، وتشابه في الشوق ذاته.

ولعل علاقة التشابه والاشتراك في المنزلة الواحدة وثيقة بين الذات الشاعرة والبعير؛ لتلازمهما، واشتراكهما ضرورة في البعد والفراق، وفي التوق إلى مكان واحد يوجد فيه إلفاهما، يقول الشاعر:

وكم همّ نضو أن يطير مع الصبا

 

إلى الشام، لولا حبسه بعقال

ولولا حفاظي، قلت للمرء صاحبي:

 

بسيفك قيّدها، فلست أبالي

أأبغي لها شراً، ولم أر مثلـها

 

سفائر ليل ، أو سفائن آل

وهنّ منيفات، إذا جبـن وادياً

 

توهمتنا، منهن، فوق جبال([40])

يمكن أن نحلل علاقة التشابه هذه على أنها تتضمن كناية، فالبعير يحن إلى وطنه، فتتذكر الذات الشاعرة وطنها، فتحن إليه، تنتقل إليها عدوى الحنين بفعل علاقة الجوار التي تربطها بالمشتاق الحيواني: الهزيل من الإبل.

وتتصدر (كم) الخبرية الصورة؛ لتخبرنا عن كثرة المرَات التي عقد فيها الهزيل من الإبل النية على أن تطير به الريح، وإن كانت لينة الهبوب لشدة هزاله، وخفته، وفرط اشتياقه إلى الوطن، لولا سيطرة (لولا) ، التي تدخل على جملتين: اسمية ففعلية لربط امتناع الثانية بوجود الأولى دلالياً.

تتراكم المشوقات في الصورة: الهزيل والصبا؛ لتجسد كثافة حنين الشاعر إلى وطنه البعيد، فأفعال البعد، والشوق، والحنين، والغربة، محاور تدور حول الوطن بوصفه غاية الفاعل، ومنتهى حركته الافتقارية، لا بوصفه مفعولاً مباشراً، وله صفة المكان البعيد، بل لعل هذه الصيغ الفعلية تؤول إلى جعل الوطن فضاء عوض أن يكون ذاتاً أخرى، وليس من الغريب أن يجتمع المعنيان في الدال الواحد عندما يشبه الشاعر ذاته المشتاقة إلى الوطن بالجمل النازع.

ويستحضر الشاعر في هذا المقطع صاحبه، والصحبة تخفف من وطأة الغربة والمعاناة استحضاراً خطياً بوصفه دالاً، لم يتوجه الشاعر إليه بالقول لحفاظه على رعاية صحبة الإبل، والإبقاء على زمامها؛ إذ لولا رعاية الشاعر لها، و معرفته أن لها عليه حقَّ مَنْ خلصه من الهلاك لأمر صاحبه بأن يعرقبها بالسيف، ولم يبال بما أصابها من الحيف، وسمى الشاعر عرقبتها بالسيف تقييداً لها كما فعل «ابن مقبل» في قوله:

يا صاحبي على ثاج طريقكما

 

سيراً حثيثاً ألما تعلما خبري

أني أقيد بالمأثـور راحلتـي

 

ولا أبالي وإن كنا على سفر([41])

ولا يبتعد عن بيت العراقيات :

فتى سيبه قيد الثناء وسيفه

 

لأدم المعالي في الشتاء عقال ([42])

وبذلك يكون الشاعر قد وظف الاستعارة بمهارة في قوله: (بسيفك قيِّدها)؛ إذ أثبت الشاعر بنية الأمر، وهي بنية وضعت لاعتبار طلبي، لا لاعتبار زمني كالماضي مثلاً؛ ذلك لأن الأمر صيغةٌ يطلب فيها الفعل من الفاعل المخاطب، أما دلالته الزمنية فهي للمستقبل؛ لأنه يأتي لما يكون ولم يقع، ويأتي تقدم شبه جملة (الجار والمجرور) «بسيفك» على الجملة المتعلقة بها؛ لتنزاح بالدلالة إلى حقل دلالي جديد، يكون فيه فعل الطلب طلبا ً كائناً على جهة الاستعلاء، مؤكداً نية الذات الشاعرة بالمحافظة على الصحبة: صحبة الإبل، فهو لا يريد عقرها؛ أي أنه لا يريد تقييدها، بل يريد لها ما يجاور فضاء النص من دلالة مقابلة، فهو يريد لها الحياة؛ لأن حياتها تعادل حياته في صوته الصامت الذي لم يتجاوز ذاته، مؤكداً بذلك أن الانتظار في نفسه لم يمت، بل أثبت له في هذه القصيدة مواقع أساسية كاشفة منها المحافظة على حياة الإبل؛ لأنها سفائر الليل، وسفائن الآل، فهي جسر الأمان الذي سيعيده إلى وطنه، وكأن الشاعر يريد أن يميت هذه المشوقات في نفسه؛ ليرتاح من الحنين والشوق إلى الوطن؛ لأنها تعذبه وتضنيه.

ويستمر صوت الذات الشاعرة راسماً الصورة العامة للإبل، ولكن بإيقاع جديد هذه المرة، مستفيداً من إمكانات الاستفهام الإنكاري بالهمزة، التي تقتضي أن ما بعدها غير واقع([43])؛ إذ هل يصدق أن يريد الشاعر شراً لهذه الإبل ؟ (أأبغي لها شراً... ؟).

فالذات الشاعرة تشك في الفعل نفسه، وكأن غرضها من الاستفهام أن تعلم وجوده، هل وقع الفعل أم لم يقع ؟، هذا يعني أن بنية الاستفهام تطرح الشك على المستوى التركيبي في صورة تساؤل مسلط على الفعل مباشرة، وتطرحه على المستوى الإيحائي في إطار ذهني تقريري؛ وبذلك تتوجه فاعلية السؤال إلى الفعل مباشرة؛ أي أن حركة المعنى تتوجه إلى فعل الإرادة أولاً، ثم إلى إرادة الشر لهذه الإبل ثانياً، وهذه الإبل الضخمة، التي تعادل الجبال وهي في الوادي، توصله إلى ما يريد، تذل الليل، وتهون صعوبته على راكبها ليلاً ونهاراً وهي صورة تذكرنا بصورة «امرئ القيس»:

فشبههم في الآل لما تكمشوا

 

حدائق دوم أو سفيناً مقيرا ([44]).

ولا تبتعد عن دلالة قول «المتنبي»: كأنه في ريْد طود شاهق([45]).

4 ـ صورة طيف الخيال:

تظهر صورة طيف الخيال بدءاً من العنوان: (لقد زارني طيف الخيال فهاجني)، وطيف الخيال مشوق من مشوّقات الذات الشاعرة، بوصفه طيفاً زائراً؛ رسول شوقٍ، آتياً من أماكن بعيدة، موسومة بالاستحالة، فلا كثافة وجودية له، ولا قدرة له على مقاومة وضح النهار، هذا الطيف هو طيف ظلام، تخضع تجربته إلى التقاطع لأمرين، أولهما: أن هذا الطيف لا يكون حاضراً إلا عند النوم؛ أي عدم حضوره بذاته، فلا تستفيق الذات الشاعرة إلا وقد مضى الطيف لسبيله محركاً جذوة شوق يرتبط بالاهتياج مثيراً حنين الشاعر إلى وطنه، وثانيهما: هو قصر الوقت الذي يدوم فيه الوصل في كلتا الحالتين، فهو لا يعدو أن يكون إيماضة إشراقة لا تتقد إلا لتخمد، ولا نبتعد عن القول: إن الطيف نفسه هو الوطن، أو إن الوطن هو نفسه طيف، أو ذو طبيعة طيفية تؤسس ثنائية (الحضور والغياب) والمشبه والشبه، وأحلام الليل وأحلام اليقظة، هنا تضيع حقيقة الذات الشاعرة، وحقيقة الوطن، فالكل أطياف مهمومة لا وحدة لها، فهل يعد هذا الطيف حالةً خاصة ؟، وهل يتحول من وسيلة للذكرى إلى غاية أم يتحول إلى جزء من باطن الشاعر القائل:

لقد زارني طيف الخيال فهاجني

 

فهل زار هذي الإبل طيف خيال؟([46]).

يتخذ الوطن صورة خيالية هي الطيف، أو بالتحديد طيف الخيال، إنه ليس الوطن ذاته، بل هو شيءٌ بين الحضور والغياب، ولئن كان الطيف من المشوقات القائمة على ازدواج الأنس والوحشة، فإنه يبقى شبيهاً بالكائنات الليلية الباعثة على القلق، والتي تعمر ظلام البيوت، وتوحش ليل الإنسان بحضورها الضبابي، أما طبيعة الطيف النفسية فترتبط بالقوة المتخيلة، حتى تكون صورة الوطن: الطيف نصب عيني الذات الشاعرة والإبل، فتثيرهما أكثر من إثارة ضوء البارق المتعالي، فيفرطا في الحنين إلى الوطن، وتأتي لعل في بنية تمن تغيب فيها ليت عن السياق في قول الشاعر:

لعل كراها قد أراها جذابها

 

ذوائب طلح بالعقيق وضال

ومسرحها في ظل أحوى كأنها

 

إذا أظهرت فيه ذوات حجال([47]).

ليصبح التمني رجاء، يعمل على ترقب الحصول وتوقعه. فالبنية هنا تتحرك من منطقة النفي وصولاً إلى منطقة الإثبات (المرجو)، لا الإثبات المتحقق أو الواقع؛ لذلك يلاحظ في هذه البنية عموماً أن المطلوب أمر محبب، أو مرغوب فيه؛ ولهذا تتعلق بالممكن والمحال، فحققت هذه البنية انتقال الذات الشاعرة من تعنيف الإبل لإفراطها في حنينها إلى طلب العذر لها في باعث لوعتها وشدة اشتياقها وصبابتها وشجونها في (لعل) التي دفعها السياق إلى التحرر من أصل المعنى، وشغلها بدلالة طارئة هي التمني، الذي تختص بإنتاجه ليت ويصاحب هذا التحرر دخول دائرة الطلب، كما يصاحب دخول لعل دائرة التمني حركة ذهنية عميقة عند المبدع، تجعل الإبل ترى في نومها أحلاماً كما يتخيل الإنسان، فلعل كراها قد أراها أنها في موضع يسرها أن تكون فيه فهاج شوقها أكثر مما هاجه البرق، كما أن ركبانها قد رأوا ذلك في نومهم، فحنوا أيضاً إلى أوطانهم؛ وبذلك تكون لعل من الأدوات التي تنتج الترجي، وهو ترقب ما ستراه في النوم مع راكبيها؛ لأن الترجي ليس من أنواع الطلب في الحقيقة، بل في المجاز الذي يعد تفكيكاً للغة السائدة، وإعادة كتابة عبر الأثر والمكتوب والمخالفة والاختلاف داخل الأثر ذاته، الأمر الذي يرينا كيف يتوالد المجاز من الجسد ذاته سواء أكان جسد اللغة أم الجسد الذي تحيل عليه اللغة فاتحاً فضاءات أسئلة مغايرة، تحقق لذة القراءة والسؤال والاستكشاف؛ وبذلك يكون المجاز زمناً للحضور في الغياب، واستكمالاً لحلم الإبل الذي ذكرها رعيها تحت الظلال واحتجابها بذلك الشجر كأنها غوان قد استترن بالحجال، وهو حلم يحيلنا إلى المكان المخصب الذي كانت تعيش فيه، وإلى صمت البيان الذي ينفتح على قولين شعريين هما قول «ذي الرمة»:

إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها

 

بأفنان مربوع الصريمة معبل([48])

وقول «مضرس الأسدي»:

ويوم من الشعرى كأن ظباءه

 

كواعب مقصورٌ عليها ستورها([49])

انفتاحاً يجعلهما وحدة رئيسة في بناء هذه الصورة الشعرية؛ وبذلك يفعّل الشاعر تشغيل نسق الصور البلاغية القديمة؛ هذا النسق الذي يستند إلى مبدأين هما: الانزياح، والأثر الانفعالي.

وتأتي بنية النداء في قول الشاعر :

أ إخواتنا، بين الفرات وجلق،

 

يد الله ، لا خبرتكم بمحال

أنبئكم أني، على العهد، سالم

 

ووجهي لما يبتذل بسؤال

وأني تيممت العراق لغير ما

 

تيممه غيلان عند بلال

فأصبحت محموداً بفضلي وحده

 

على بعد أنصاري وقلة مالي

ندمت على أرض العواصم بعدما

 

غدوت بها في السوم غير مغال

ومن دونها يوم من الشمس عاطل

 

وليل بأطراف الأسنة حال ([50]).

لتنتج بنية دلالية هي (طلب الإقبال حساً ومعنى) بحرف (مولد) من الفعل (أدعو)، هذا الحرف هو (الهمزة) التي ينادى بها القريب، الذي يشاركه الغربة، والحنين إلى الوطن؛ يناديه ليخبره أنه نادم على ترك أرض العواصم، أو فراقها، وأنه سارع للعودة إليها، غير هياب لما يلاقيه في طريقه من مخاطر؛ لأنه يخاف على عرضه أكثر من خوفه على نفسه:

أروح، فلا أخشى المنايا، وأتقي

 

تدنس عرض أو ذميم فعال ([51]).

وهو قول يدور دلالياً حول محور بيت «المتنبي»:

يهون علينا أن تصاب جسومنا

 

وتسلم أعراض لنا وعقول ([52]).

ويستحضر قول «ابن حارثة»: (المنية ولا الدنية).

وهكذا نجد أن قصيدة (لقد زارني طيف الخيال فهاجني) لـ«أبي العلاء المعري» تجسد بلاغة الحنين الذي أثارته مجموعة من المشوِّقات، صنفناها في ثلاثة أقسام ـ هي عناصر طبيعية: (البرق، الصبا، الريح) ، وصوت الإبل، وطيف الخيال؛ لضبط منهج الدراسة، لكنها في حقيقة الأمر متداخلة، وتتخذ صورة عنقود من المشوقات، تثير الإبل، التي تثير الذات الشاعرة، فتحرك الشوق والحنين إلى الوطن، وتدفعنا إلى القول:

 ـ إن بين التجربتين البشرية والحيوانية تناظراً، يوثق الصلة بينهما، ويوحي بوجود صلة استعارية وثيقة بين المشوقات الحيوانية والذات الشاعرة المتشوقة إلى الوطن بالمشوقات نفسها.

ـ إن مراكمة المشوقات قد توازي مراكمة للبعد عن الوطن، أو لأسباب البعد عنه، يقول الشاعر:

وأني تيممت العراق لغير ما

 

تيممه غيلان، عند بلال ([53]).

ـ تمثل القصيدة حالة استسلام للخيال الرائي المزدوج بالتأمل الغيبي، فتشعرن مرحلة واقعية عميقة الجذور في تجربة «أبي العلاء»، الذي يتسلق بالشوق والاشتياق والحنين والنزوع إلى الوطن مدارات الفضاء الشعري، فيتحول النص عنده من نص مغلق إلى نص مفتوح، يجسد تجربة كل إنسان بعيد عن الوطن، ويقبل تفسيرات جديدة متتابعة في كل زمان ومكان؛ وبذلك يمكننا أن نقول: إن أخص ما في هذا الحنين في هوية «أبي العلاء» بارق من سر الحياة، لم يلح له من قبل، وهو الذي يشرع الحنين، فيتجه الخيال «بعين ثالثة» نحو عالم لم يطأه الخيال من قبل، هو عالم الخارق: خارق البلاغة الشعرية في شعر المطايا من جهة، وخارق حجب الزمان والمكان؛ ليكون الغائب: الحاضر من جهة أخرى، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على امتلاك «أبي العلاء» فعل الهدم، ورؤيا البناء في الوقت نفسه.

ـ إن الحنين هو الدافع والغاية، وهو الأصل والمحور والطريق إلى الوطن؛ إذ كلما اشتد بالشاعر هاتف الشوق والحنين كان كمَنْ تخطى ذاته بذاته، فيتوق الحنين إلى حنين أكبر يخطو خطوة أخرى باتجاه الوطن.

المصادر والمراجع

1 ـ آثار أبي العلاء المعري، السفر الثاني، شروح سقط الزند، القسم الثالث، الجمهورية العربية المتحدة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب سنة 1366 ه ـ 1947م.

2 ـ البلاغة والأسلوبية: نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، هنريش بليث، ترجمة وتقديم وتعليق: د. محمد العمري، منشورات دراسات سال، منشورات مجلة دراسات سميائية أدبية لسانية، الدار البيضاء ـ المغرب، الطبعة الأولى / 1989 م/.

3 ـ البلاغة العربية: قراءة أخرى، د. محمد عبد المطلب، الشركة المصرية العالمية للنشر لو نجمان، طبع في دار نوبار للطباعة ـ القاهرة / 1997 /.

4 ـ الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، د. صفية مطهري، اتحاد الكتاب العرب، دمشق / 2003 م /.

5 ـ ديوان «ابن مقبل»، تحقيق د. عزّة حسن، وزارة الثقافة والإرشاد القوي، دمشق، /1381 هـ ـ 1962 م /.

 6 ـ ديوان «أبي الطيب المتنبي»، شرح أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، طبع في مدينة برلين، دار صادر، بيروت ـ لبنان، سنة 1861 م الجزء الأول /.  

7 ـ ديوان «جرير»، شرح محمد بن حبيب، تحقيق د. نعمان محمد أمين طه، دار المعارف بمصر / 1969 م / المجلد الأول / 165 /.

8 ـ ديوان (سقط الزند) لـ «أبي العلاء المعري»، شرحه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 1410 هـ ـ 1990 م /.

9 ـ ديوان شعر «ذي الرمة»، عني بتصحيحه وتنقيحه: كارليل هنري هيس مكارتني طبع على نفقة كلية كمبريج في مطبعة الكلية / 1337 هـ ـ 1919 م /.

10 ـ شرح ديوان «امرئ القيس»، ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام، ويليه أخبار النوابغ وآثارهم في الجاهلية وصدر الإسلام، تأليف: حسن السندوبي، المكتبة الثقافية، بيروت ـ لبنان، الطبعة السابعة / 1402هـ ـ 1982 م /.

11 ـ شرح القصائد العشر، صنعة: الخطيب التبريزي، تحقيق: د. فخر الدين قباوة، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة ـ 1400 هـ ـ 1980 م /.

12 ـ معجم لسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور، قدم له العلامة الشيخ عبد الله العلايلي إعداد وتصنيف: يوسف خياط، دار لسان العرب، بيروت ـ لبنان.

13 ـ معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت سوشبرس ـ الدار البيضاء، الطبعة الأولى / 1985 م /.

14 ـ المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، قام بإخراجه: إبراهيم مصطفى أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، أشرف علي طبعه: عبد السلام هارون المكتبة العلمية، طهران.

15 ـ مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: جمال الدين ابن هشام الأنصاري المتوفى سنة 761 هـ، حققه وعلق عليه، د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، راجعه: سعيد الأفغاني، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة / 1972 م /.



([1])      ينظر: معجم لسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور، قدم له العلامة الشيخ عبد الله العلايلي، إعداد وتصنيف: يوسف خياط، دار لسان العرب، بيروت ـ لبنان، المجلد الأول، مادة (بلغ).

([2])      ينظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، قام بإخراجه: إبراهيم مصطفى أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، أشرف علي طبعه: عبد السلام هارون المكتبة العلمية، طهران، الجزء الأول، مادة (بلغ).

([3])      هكذا وردت في المعجم.

([4])      معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت سوشبرس ـ الدار البيضاء، الطبعة الأولى / 1985 م / 55 / 56 /.

([5])      ينظر: البلاغة والأسلوبية: نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، هنريش بليث، ترجمة وتقديم وتعليق: د. محمد العمري، منشورات دراسات سال، منشورات مجلة دراسات سميائية أدبية لسانية، الدار البيضاءـ المغرب، الطبعة الأولى / 1989 م/ 16 /.

([6])      المرجع السابق نفسه /19/.

([7])      ينظر: المرجع السابق نفسه/41/.

([8])      المرجع السابق نفسه /65/.

([9])      معجم لسان العرب، مادة (حنن ).

([10])    المرجع السابق نفسه، مادة (شوق ).

([11])    المرجع السابق نفسه، مادة (نزع ).

([12])    ديوان (سقط الزند )ل " أبي العلاء المعري "، شرحه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1410 هـ ـ 1990 م / 237 /.

([13])    ديوان شعر " ذي الرمة "، عني بتصحيحه وتنقيحه: كارليل هنري هيس مكارتني طبع على نفقة كلية كمبريج في مطبعة الكلية / 1337 هـ ـ 1919 م /.

([14])    معجم لسان العرب مادة (طرب ).

([15])    ينظر: الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، د. صفية مطهري، اتحاد الكتاب العرب، دمشق / 2003 م / 48 / 49 /.

([16])    ينظر: المرجع السابق نفسه / 136 /.

([17])    آثار أبي العلاء المعري، السفر الثاني، شروح سقط الزند، القسم الثالث، الجمهورية العربية المتحدة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب سنة 1366 هـ ـ 1947م، الجزء الثالث / 1163 /.

([18])    معجم لسان العرب، مادة (شجن ).

([19])    ينظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: جمال الدين ابن هشام الأنصاري المتوفى سنة 761 هـ، حققه وعلق عليه، د. مازن المبارك محمد علي حمد الله، راجعه: سعيد الأفغاني، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة / 1972 م / 162/.

([20])    ينظر: البلاغة العربية: قراءة أخرى، د. محمد عبد المطلب، الشركة المصرية العالمية للنشر لو نجمان، طبع في دار نوبار للطباعة ـ القاهرة / 1997 / 280 /.

([21])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 237 /.

([22])    الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، د. صفية مطهري / 78 /.

([23])    البلاغة العربية: قراءة أخرى، د. محمد عبد المطلب / 281 /.

([24])    شروح سقط الزند، جـ 3 / 1166 /.

([25])    ينظر: المصدر السابق نفسه / 1167 ـ 1169 /.

([26])    شروح سقط الزند، ج3 / 1177 /.

([27])    ينظر: الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، د. صفية مطهري / 50 ـ 52 /.

([28])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 239 /.

([29])    معجم لسان العرب، مادة (حنن ).

([30])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 239 / 240 /.

([31])    شرح القصائد العشر، صنعة: الخطيب التبريزي، تحقيق: د. فخر الدين قباوة، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة ـ 1400 هـ ـ 1980 م / 286 /.

([32])    شروح سقط الزند / جـ 3/ 1187 /.

([33])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 240 /.

([34])    ينظر: الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، د. صفية مطهري / 205 ـ 207 /.

([35])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 240 /.

([36])    معجم لسان العرب، مادة (ربب ).

([37])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 240 /.

([38])    ديوان «ذي الرمة» / 592 /.

([39])    ديوان «جرير»، شرح محمد بن حبيب، تحقيق د. نعمان محمد أمين طه، دار المعارف بمصر / 1969 م / المجلد الأول / 165 /.

([40])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 238 /.

([41])    ديوان " ابن مقبل "، تحقيق د. عزّة حسن، وزارة الثقافة والإرشاد القوي، دمشق، /1381 هـ ـ 1962 م / 77 / 78/.

([42])    شروح سقط الزند، جـ 3 / 1171 /.

([43])    ينظر: مغني اللبيب، ابن هشام / 24 /.

([44])    شرح ديوان " امرئ القيس "، ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام، ويليه أخبار النوابغ وآثارهم في الجاهلية وصدر الإسلام، تأليف: حسن السندوبي، المكتبة الثقافية، بيروت ـ لبنان، الطبعة السابعة / 1402هـ ـ 1982 م / 84 /.

([45])    ديوان "أبي الطيب المتنبي"، شرح أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، طبع في مدينة برلين، دار صادر، بيروت ـ لبنان، سنة 1861 م الجزء الأول / 336 /.

([46])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 238 /.

([47])    المصدر السابق نفسه / 238 /.

([48])    ديوان " ذي الرمة " / 504 /.

([49])    شروح سقط الزند، حـ 3 / 1176 /.

([50])    ديوان (سقط الزند )، أبو العلاء المعري / 242 /.

([51])    المصدر السابق نفسه / 242 /.

([52])    ديوان " المتنبي "، حـ 2 / 532 /.

([53])    ديوان (سقط الزند )/ 242 /.

 

 

E - mail: [email protected]

| الصفحة الرئيسية | | صفحة الدوريات | | صفحة الكتب | | جريدة الاسبوع الادبي | | اصدارات جديدة | | معلومات عن الاتحاد |

سورية - دمشق - أتوستراد المزة - مقابل حديقة الطلائع - هاتف: 6117240 - فاكس: 6117244