|
||||||
Updated: الاحد, تشرين الأول 26, 2008 09:52 ص | ||||||
فهرس العدد |
الإمام جلالُ الدين السيوطي وحقيقة كلامه في الاجتهاد ـــ أ.أحمد معبوط(*) كثيراً ما يُذكر الإمام جلال الدين السيوطي فيما يكتبه المعاصرون عن الاجتهاد، نظراً لما أسهم به في الموضوع من كتابات أبرزها كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض)، لكن دون تحديد وتوضيح رؤيته في ذلك، وهل تتفق مع واحد من الاتجاهات الخاصة في الاجتهاد، المتقدمة منها أو المتأخرة، أم تختلف عنها فهي تعانق ما هو مألوف ومعهود مما أطبقت عليه الأمة وسار عليه سوادها الأعظم؟ وفي حين نلمس أثراً واضحاً لبعض تلك الاتجاهات الاجتهادية الخاصة في بعض نزعات الاختيار الفقهي المعاصرة، بل والتصريح بمرجعيتها في كثير من الأحيان، فإننا لا نجد مثل ذلك لآثار الإمام السيوطي في الموضوع، كما أننا لا نلاحظ أيّ إشارة إلى منهجه أو مرجعيته فيه. فلا بدّ إذن من الوقوف على حقيقة الاجتهاد الذي تكلم عنه الإمام السيوطي ودعا إليه بل ادّعاه ولم يُسلّم له في دعواه. والإمام السيوطي هو جلال الدين عبد الرحمن بنُ أبي بكر (849 ـ 911هـ)، المتبحر في علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان والبديع على طريقة العرب، ودون هذه السبعة في المعرفة: أصول الفقه، والجدل، والتصريف، وغيرها، وإن استعصت عليه بعضُ العلوم كالحساب والمنطق. وكل ذلك تحدث به ودلت عليه آثاره. وهذا التبحر أورث فيه ثقة كبيرة في نفسه فهو يقول: «ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله»(1). دعوى السيوطي الاجتهاد: إن دعوى السيوطي الاجتهاد كانت سبباً لنيل الناس منه(2) ولم يثنه ذلك عن اعتقاده في نفسه أنه هو المجدد على رأس المئة التاسعة لدين الإسلام، وذلك استناداً إلى حديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»(3)، لكن كثيراً من العلماء المعاصرين له لم يسلِّموا له ادعاءه، مع أن العلماء في مختلف العصور قد سلموا لمن وجد في عصرهم بالاجتهاد، حتى دون أن يدّعي ذلك، كالتسليم لأمثال مالك والشافعي، فلم تكن المعاصرة حجاباً عن إحقاق ما هو حق في يوم من الأيام، مع أن بعض الكتاب المعاصرين يسرعون إلى هذا المشجب دون روية وتحقيق، وربما اعتمدوا في ذلك على مقولات للسلف مرسلة عن سياقها والقرائن المحتفة بها، فيُحْجَبُون عن الحقيقة في القليل أو الكثير من الأحيان، كما هو شأن كل تبسيط في تعليل القضايا خاصة تلك التي لا تحتمل ذلك. ومهما يكن فإن الجدال حول هذه الدعوى قد بلغ أشده في عصره، وكان السيوطي لا يرى أحداً يدانيه في الرتبة حتى يحتكم إليه فيما بينه وبين خصومه فيها، وربما استعمل أساليبَ فيها تطاول وتعال وقسوة، ومع ذلك لم ينتزع الاعتراف من المسلمين بصحة دعواه. ومهما يكن رأيُنا في تصرفه هذا، فإنه لم يعهد في السلف أمثال الأئمة الأربعة وكبار تلاميذهم قال عن نفسه ما قاله السيوطي أو معشاره(4). لكن الاجتهاد مراتب وأنواع كما هو مبين في المصادر ككتب الفقه وأصوله والفتوى وقضاياها، فوجب علينا أن نسأل حول أي نوع من تلك الأنواع جرى ذلك الجدل، وأي مرتبة من تلك المراتب لم تسلّم للسيوطي؟ والجواب نجده صريحاً عند السيوطي نفسه، إذ لم يترك لنا مجالاً لاستعمال قراءات قد تحوم حولها الظنون ولا ترسو إلى يقين، فهو يبين رتبة الاجتهاد التي يدّعي بلوغها فيقول: «ولما بلغت درجة الترجيح: لم أخرج في الإفتاء عن ترجيح النووي وإن كان الراجح عندي خلافه. ولما بلغت درجة الاجتهاد المطلق: لم أخرج في الإفتاء عن مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه...، كما كان القفّال وقد بلغ رتبة الاجتهاد، يفتي بمذهب الشافعي لا باختياره»(5). فالترتيب الذي يستند إليه السيوطي هو الترتيب الذي مشى عليه ابن الصلاح في كتابه الخاص بالفتوى وآدابها وتبعه فيه النووي وغيره من الشافعية، وتبناه ابن حمدان وابن تيمية وغيرهما من الحنابلة، والذي يفترض تقسيم رتبة المجتهد المطلق الشائعة الاستعمال إلى رتبتين: رتبة أعلى هي رتبة المجتهد المستقل؛ وهو الذي لا يقلد غيره في الأصول والفروع كالشافعي ومالك، ورتبة تليها مباشرة وهي رتبة المجتهد المطلق؛ وهو الذي ينتسب إلى مجتهد مستقل فيقلده في الأصول وقد يخالفه في الفروع. فاصطلاح المجتهد المطلق عند السيوطي غير ما هو شائع عند من لا يأخذ بهذا الترتيب، فهو لا يقصد به معنى المجتهد المستقل الذي هو أعلى رتبة منه، وهو المرادف للمطلق عند أولئك. إذن ما ادعاه السيوطي هو اجتهاد في المذهب الشافعي لا يعدوه، فهو يقر بتقليده للإمام الشافعي في أصوله، وإنما يدّعي قدرتَه على التفريع على تلك الأصول، مما قد يؤدي به إلى مخالفة إمامه في الفروع، ومع ذلك فهو ملتزم بعدم مخالفة مذهبه في الإفتاء. ويفهم من ذلك أنه يسخّر قدرته على الاجتهاد فيما لا نص فيه من مذهب إمامه، ويبدو أن هذا مسلك حسن، حبّذا لو اتبع في عصرنا، فتركت بناء عليه المسائل التي أشبعت بحثاً فيما مضى، وكان الالتفات إلى غيرها مما هو أولى بالبحث في أيامنا، خاصة وأن العلوم الشرعية كغيرها من العلوم تعتمد على التراكم المعرفي في تأسيسها، إذ يضيف اللاحق إلى ما تركه السابق، وإن كانت هناك مراجعة ما لبعض الأسس في بعض الأحيان فهي مراجعة جزئية في بعض التفاصيل، لا مراجعة كلية تأتي على نقض ذلك البنيان الثابت كالتي تنقض غزلها أنكاثا. ولا يدعي السيوطي الاجتهاد المطلق على معناه الذي بيّنه في الأحكام الشرعية فحسب، بل إنه يدعيه في الحديث والعربية أيضاً، ويعلن أن هذه الأمور الثلاثة لم تجتمع في أحد بعد الشيخ تقي الدين السبكي إلا فيه(6). وإن كان الحديث والعربية من المقدمات الأساسية للاجتهاد في الأحكام الشرعية، فإنه ليس من لوازم المجتهد المطلق أن يكون مجتهداً في مقدمات الاجتهاد، كما نص عليه الإمام الشاطبي في كتاب الاجتهاد من الموافقات، وغيره. نعم لقد أكد العلماء على العربية حتى صرّح بعضهم باشتراط الاجتهاد فيها ومنهم الشاطبي، لكنهم لا يعنون بذلك اجتهاداً مثل سيبويه، وإنما التوسط الذي عليه العربي سليقة كما بينوه، وعلى هذا النحو أيضاً يفهم تأكيدهم على العلم بالقرآن والسنة. والمجتهد في الحديث في عرف المحدثين لا بد أن يلقب بما يفيد رتبته تلك كأن يلقب بالحافظ مثلاً. والكثير ممن وُصف بالاجتهاد ـ أي: في الأحكام الشرعية ـ لم يصفهم المحدثون بما يدل على اجتهادهم في الحديث، كأن يصفوهم بالحفاظ مثلاً أو يذكرونهم في طبقاتهم. ويذكر السيوطي ممن وصف بالاجتهاد المطلق: الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر بن الصّبّاح، وإمام الحرمين، والغزالي، وكل منهم لم يُعدّ في حفاظ الحديث، بل يقول السيوطي: «وروى كل منهم في تصانيفه أحاديث احتج بها، وهي منكرة، أنكرها الحفاظ ـ كابن الصلاح والنووي، وكأن ابن الصلاح بسبب ذلك ـ وصف المذكورين سوى ابن الصباغ بالاجتهاد المقيّد دون المطلق، فكأنه يرى أنه من شروط الاجتهاد المطلق أن يكون من حفاظ الحديث ونقاده». وعقب على هذا الرأي بقوله: «ولا شك أنه رأيٌ قويٌّ، وإن كنت أخالف ابن الصلاح في قصره هؤلاء على الاجتهاد المقيّد، وأوافق مَن وصفهم بالاجتهاد المطلق». ويعلِّل ما ذهب إليه قائلاً: لأنه لا يلزم من خفاء أحاديث يسيرة عليهم، أن يُسلبوا هذا الوصف؛ إذ ليس من شرط المجتهد أن يحيط علماً بكل حديث في الدنيا... وقد خفي على الأئمة السابقين أحاديث علمها غيرهم؛ منها: الأحاديث التي علق إمام الأئمة الشافعي ـ رضي الله عنه ـ القول بها على صحتها، وقد صحت عند غيره، بل وأكابر الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره خفيت عليهم أحاديث فكادوا يقضون بخلافها حتى حُدِّثوا بها. فخفاء القدر اليسير لا يقدح في حصول رتبة الاجتهاد المطلق. واستدل على ذلك بأن قال: «قد بلغ الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين رتبة الاجتهاد المطلق، وألف كتابه (المحيط) التزم فيه الوقوف مع الحديث وعدم التقيد بالمذهب، فوقع للبيهقي منه ثلاثة أجزاء في حياة المصنف... فتعقب فيه أوهاماً حديثية، وأرسل رسالته إلى الجويني يبين له ما يتعقبه، وقال له في مسألة اختارها بخلاف ما نص عليه الشافعي: الشيخ أهل أن يجتهد ويتخير، ولكن يحتاج إلى ثبوت الحديث الذي احتج به، فإنه غير ثابت». فسلّم له رتبة الاجتهاد مع خفاء أمر هذه الأحاديث عليه، وذكر مثالاً آخر يثبت صحة دعواه فقال: «وقد كان الشيخ سراج الدين البُلقيني مجتهداً مطلقاً... وكان أيضاً من حفاظ الحديث، وصفه تلميذه حافظ العصر ابن حجر بالحفظ، وذكره أيضاً في طبقات الحفاظ، ولكن لم يكن في الرتبة العليا من الحفظ والنقد، بل كان عصريُّه الحافظ أبو الفضل العراقي أحفظ منه، وأجل في الفن الحديثي والنقد بكثير، وكانت عربية البلقيني وسطى». وأما بقية من جاء من المجتهدين بعد السبكي إلى اليوم فلم يكن فيهم من يبلغ رتبة البلقيني في الحديث. وأما قبل السبكي: فاجتمع الاجتهاد في الأحكام والحديث لخلق منهم: ابن تيمية، وقبله ابن دقيق العيد، وقبله النووي، وقبله أبو شامة، وقبله ابن الصلاح، وأما في المتقدمين فكثير جداً. وأما الاجتهاد في العربية على انفراده، فما جاء بعد ابن هشام مَن يصلح لأن يوصف به غيري، إلا أن يكون الغماري ـ أي: محمد بن محمد شمس الدين ـ فإنه كان متفرداً بالنحو على رأس الثمانمئة، إلا أني لم أر شيئاً من كلامه فأحكم عليه...» إلى أن قال: «فإن قلت: ما كفاك دعوى اجتهاد واحد حتى تدّعي اجتهاداتٍ ثلاثة؟ وقد سمعنا بالاجتهاد في الأحكام الشرعية، وما سمعنا بالاجتهاد في الحديث والعربية؟ قلت: قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول ما نصه: (المعتبر في الإجماع في كل فنٍّ من أهل الاجتهاد في ذلك الفن وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره. مثلاً: العبرة بالإجماع في مسائل الكلام بالمتكلمين. وفي مسائل الفقه بالمتمكنين من الاجتهاد في مسائل الفقه. فلا عبرة بالمتكلم في الفقه، ولا بالفقيه بالكلام. بل من تمكن من الاجتهاد في الفرائض دون المناسك يعدُّ وفاقُه وخلافه في الفرائض دون المناسك)هـ(7). وقال أبو الحسين البصري في شرح المعتمد: (لا يجوز التقليد في أصول الفقه، ولا يكون كل مجتهد فيه مصيباً، بل المصيب فيه واحدٌ، بخلاف الفقه في الأمرين). قال: (والمخطئ في أصول الفقه ملوم غير معذور، بخلاف الفقه فإنه معذور)(8). فهذه ثلاث قواعد خالف فيها الفقه أصوله؛ لأن أصول الفقه ملحق بأصول الدين؛ لأن المطالب قطيعة...»(9). هذا ومع وجود من أنكر هذه الدعوى أشد الإنكار فلم يسلِّم للسيوطي بلوغَها، فقط وجد من أقر له بذلك، وأثنى عليه وامتدحه، وفي غير باب من أبواب العلم، منهم شمس الدين القادري الشاعر. اختيارات السيوطي الفقهية: للدلالة على مسوغ دعواه بلوغ رتبة الاجتهاد ختم مصنفه «التحدث بنعمة الله» بجملة المسائل التي له فيها اختيارٌ قال: «ذكرت اختياراتي في الفقه على وجه الاختصار، وهي مبسوطة بأدلتها في: حواشي الروضة». وهو في كل اختياراته التي ذكر لم يخرج عن المذهب الشافعي كما نص عليه. وإنما قد يكون بعضها مخالفاً لما اعتاده الناس في بيئته المصرية من الأقوال في المذهب الشافعي، وجرى الإفتاء والعمل به عند أهلها، فقوبل بالإنكار من أجل ذلك(10). فرضية الاجتهاد عند السيوطي: يقرر السيوطي في كتابه: (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قطر(11). أما القدر الذي تحصل به الكفاية وعلى من يتعين فرض الاجتهاد فيفهم من نصوص كتابه؛ أنه لا يختلف عما قرره العلماء بناء على تنوع الاجتهاد وتدرّجه، من عدم اشتراط المراتب العليا فيه، ولا اشتراط كل أنواعه لحصول ذلك، كما وضّحه الإمام الشاطبي عند حديثه عن أنواع الاجتهاد في كتابه الموافقات. ويسرد السيوطي نصوص العلماء المؤيدة لما قرره من جميع المذاهب، ومن ذلك: نقل المزني عن الشافعي أنه نهى عن تقليده وتقليد غيره ثم يعلق قائلاً ـ أي السيوطي ـ: «ولا شك أنه لا يمكن نهيُ الخلق بأسرهم عن التقليد؛ لأن العوام يجوز لهم التقليد بالإجماع. وإنما نهى الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أن يطبق أهل العصر كلهم على التقليد؛ لأن فيه تعطيلَ فرض من فروض الكفايات وهو الاجتهاد، فحث على الاجتهاد ليكون في كل عصر كم يقوم بهذا الفرض، هكذا قرر معنى هذا النص الأصحاب رضي الله عنهم»(12). ويقصد بالأصحاب كبار أئمة المذهب الشافعي كما هو معروف. والاجتهاد هنا هو الذي يتأدى به فرض الكفاية بأيّ نوع من أنواعه كما سبقت الإشارة إليه. وفي نفس المعنى ينقل نص الماوردي في أول كتابه الحاوي الكبير(13)، ونحوه نص الروياني في البحر(14)، والبغوي في كتاب التهذيب في الفقه(15)، وابن سراقة ـ أحد أئمة الشافعية ـ في كتابه إعجاز القرآن، حتى إنه ذكر فيه ما يفيد أن ترك الاجتهاد يؤدي إلى إبطال الشريعة، وهو نظير ما نص عليه غيره(16). والاجتهاد الذي يؤدي تركه إلى إبطال الشريعة هو اجتهاد تحقيق المناط، والذي به يتحقق استمرار الاجتهاد في كل عصر ما دام التكليف قائماً، بخلاف سائر الأنواع، وقد تولى الشاطبي بيان ذلك بوضوح في المظان التي ذكرناها آنفاً. ويواصل السيوطي في سرد نصوص أئمة الشافعية في المعنى المذكور(17). ثم يورد السيوطي نصوص المالكية في ذلك(18): فيورد نصّ ابنِ القصّار في كتابه المسمى بالمقدمة في أصول الفقه، ونص القرافي في كتابه التنقيح في الأصول، والقاضي عبد الوهاب في كتاب المقدمات في أصول الفقه، وفي كتاب الملخص في أصول الفقه. وينقل السيوطي عن ابن الحاجب في مختصره في الأصول، وابن الساعاتي من الحنفية في كتاب البديع في الأصول عن الحنابلة أنهم صرحوا في استدلالهم بأن الاجتهاد فرض كفاية(19). الوظائف التي اشترط فيها الفقهاء الاجتهاد: يذكر السيوط ما شرط فيه الفقهاء الاجتهاد من الوظائف التي هي فرض كفاية ليدلل به على أن مآل ذلك أن الاجتهاد نفسه فرض كفاية. واستدلاله وجيه، وإن كان في بعض ما ذكر اختلاف حول اشتراط الاجتهاد فيه، وفي بعضه تفصيل لم يأت على ذكره. وهذا ما ذكره باختصار(20): الإمامة العظمى ـ من يبايع الإمام ـ وزارة التفويض ـ القضاء ـ المفتي ـ الحسبة ـ والي المظالم ـ نقابة الأشراف ـ عاقد الأنكحة ـ ساعي الزكاة(21). ويضيف: «وكذا كل من ولاه الإمام في جزئية معينة لا يشترط فيه إلا الاجتهاد المتعلق بتلك الجزئية فقط». بعد أن ذكر أن ما يشترط في ساعي الزكاة إنما هو الاجتهاد في باب الزكاة(22). ويفهم من اشتراط الاجتهاد في الوظائف المذكورة أو أغلبها أن المقصود بذلك مراتب الاجتهاد الدنيا، إذ لا يعقل أن يشترط الاجتهاد المطلق أو التخريج مثلاً فيها. وهذا يؤكد أن الاجتهاد الذي لا يخلو منه عصر، ويتأدى به فرض الكفاية، هو نوع منه دون نوع، ومرتبة منه دون أخرى. مسألة خلو العصر من مجتهد: يذكر السيوطي نصوص العلماء على أن الدهر لا يخلو من مجتهد، وأنه لا يجوز عقلاً ـ أي لا يمكن ـ خلوُّ العصر منه ويعقد لذلك باباً(23). وينتهي إلى التحقيق فيما لهج به كثير من الناس في عصره بأن المجتهد المطلق فُقِد من قديم، وأنه لم يوجد من دهر إلا المجتهد المقيد. فيحكم عليه بالغلط الذي مردُّه إلى عدم الاطلاع على ما قاله العلماء في ذلك، وإلى عدم المعرفة بالفرق بين المجتهد المطلق والمجتهد المستقل، ولا بين المجتهد المقيد والمجتهد المنتسب، وبين كل مما ذُكر فرق، ولهذا ترى أن من وقع في عبارته إن المجتهد المستقل مفقود من دهر، ينص في موضع آخر على وجود المجتهد المطلق(24). يقرّر السيوطي بعد ذلك أن المجتهد المطلق أعم من المجتهد المستقل، وغير المجتهد المقيد، فيقول: «فإن المستقل هو الذي استقل بقواعده لنفسه، يبني عليها الفقه خارجاً عن قواعد المذاهب المقررة، وهذا شيء فُقد من دهر، بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له، نص عليه غير واحد. قال ابن بَرْهان في كتابه في الأصول: أصول المذاهب وقواعد الأدلة منقولة عن السلف، فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها. وقال ابن المنير: أتباع الأئمة الآن الذين حازوا شروط الاجتهاد مجتهدون ملتزمون أن لا يحدثوا مذهباً. أما كونهم مجتهدين؛ فلأن الأوصاف قائمة بهم، وأما كونهم ملتزمين أن لا يحدثوا مذهباً؛ فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود، لاستيعاب المتقدمين لسائر الأساليب... وأما المجتهد المطلق غير المستقل، فهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل، ثم لم يبتكر لنفسه قواعدَ، بل سلك طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهذا مطلق منتسب لا مستقل ولا مقيد، هذا تحرير الفرق بينهما. فبين المستقل والمطلق عموم وخصوص؛ فكل مستقل مطلق، وليس كل مطلق مستقلاً. وبهذا الذي ذكرناه صرح ابن الصلاح ثم النووي...»(25). وسبق أن أشرنا إلى ما صرح به ابن الصلاح والنووي، وخلاصته: أنهما قسما المجتهد الذي ليس بمستقل إلى أربعة أقسام: الأول: المطلق: وهو الذي لم يقلد إمامه، ولكن سلك طريقه في الاجتهاد. والثاني: المقيد وهو الذي يسمى مجتهدَ التخريج. والثالث: مجتهد الترجيح. والرابع: مجتهد الفتيا. قال السيوطي: «وإنما جاء الغلط لأهل عصرنا من ظنّهم ترادف المطلق والمستقل، وليس كذلك لما قد عرفته»(26). وربما كان هذا الالتباس وراء إنكارهم عليه دعواه. وبعد أن حقق السيوطي الفرق بين الاجتهاد المطلق والمستقل؛ يصرِّحُ أن ما ادعاه إنما هو الأول لا الثاني؛ إذ يقر بأنه تابع للإمام الشافعي رضي الله عنه، وسالك طريقه في الاجتهاد امتثالاً لأمره، ومعدود من أصحابه، وينفي عن نفسه الاجتهاد المقيد؛ إذ المجتهد المقيد إنما ينقص عن المطلق بإخلاله بالحديث أو العربية، وهو يدعي أنه ليس على وجه الأرض من مشرقها إلى مغربها أعلم بالحديث والعربية منه ويقول: «إلا أن يكون الخضر، أو القطب، أو وليّاً لله؛ فإن هؤلاء لم أقصد دخولهم في عبارتي والله أعلم»(27). ذكر من حث على الاجتهاد وأمر به وذم التقليد ونهى عنه: بعد أن بيّن السيوطي حقيقة ما يدعيه من الاجتهاد، يذكر من حث عليه ونهى عن ضده ليكون الأمر واضحاً بهذا الترتيب، فلا يوضع ما يأتي في غير محلّه، كما هو واقع بعض التعميمات في عصرنا التي هي مثار الغلط وفهم الأمور على غير حقيقتها. قال السيوطي: «ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد ويحضون عليه، وينهون عن التقليد ويذمونه ويكرهونه، وقد صنف جماعة لا يحصون في ذم التقليد»(28). ثم يذكر منهم المزني صاحب الإمام الشافعي في كتاب فساد التقليد، ونقل عنه ابن عبد البر في كتاب العلم، وأبو شامة في كتابه المسمى خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول، وابن دقيق العيد في كتاب التسديد في ذم التقليد.. وغيرهم(29). تقرير السيوطي في فساد التقليد ونفيه: ينقل السيوطي قولَ ابن عبد البر في كتاب العلم في التفريق بين التقليد والإتباع عند جماعة من العلماء وما جاء في ذم الأول واستساغة الثاني من أقوال(30). لكن ينقل قول ابن عبد البر بأن كل ما سبق تقريره إنما هو لغير العامة؛ فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة، إذ لا تتبين موضع الحجة، فلا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك وهو المراد بقوله تعالى: ?فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?(31)، ولم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا وذلك لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم(32). وفي نفس السياق والمعنى ينقل السيوطي قول القاضي عبد الوهاب أحد أئمة المالكية في أول كتابه المقدمات في أصول الفقه، وفي كتابه الملخص في أصول الفقه، وقول الغزالي في المستصفى، وغيرهما(33). وخلاصة ما ساقه من أقوال العلماء: أن العالم المتأهل للاجتهاد لا يجوز في حقّه التقليدُ، بل يجتهد فيما يدخل في اختصاص مرتبته الاجتهادية، بخلاف العاميِّ ـ وهو غير المجتهد ـ الذي لا يقدرُ على النظر. وبهذا تتبين حقيقة كلام الإمام جلال الدين السيوطي عن الاجتهاد التي لا مطمح فيها ولا مستمسك للاتجاهات الغريبة المخالفة لسبيل في هذا الشأن. مصادر البحث: ـ الأحكام السلطانية والولايات الدينية: لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي. بيروت/ دمشق: المكتب الإسلامي، 1996م. ـ الأحكام السلطانية: لأبي يعلى محمد بن الحسين الحنبلي. بيروت: دار الكتب العلمية، 1983م. ـ البحر المحيط في أصول الفقه: لبدر الدين بن محمد الزركشي. الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1423هـ / 1992م. ـ البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: لمحمد بن علي الشوكاني. دمشق / بيروت: دار ابن كثير، 2006م. طبعة أخرى: القاهرة: دار الكتاب الإسلامي 1980م. ـ جامع بيان العلم وفضله: لأبي عمر يوسف بن عبد البر. تحقيق: أبو الأشبال الزهيري. السعودية: دار ابن الجوزي، ط3، 1418هـ / 1997م. ـ حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة: لأبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م. طبعة أخرى: دار إحياء الكتب العربية، 1967م. ـ الرسالة: لمحمد بن إدريس الشافعي. تحقيق: أحمد محمد شاكر. مصر: ط البابي الحلبي، 1309هـ. ـ قوت القلوب في معاملة المحبوب: لأبي طالب المكي محمد بن علي. بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م. كتاب التحدث بنعمة الله، لأبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. بيروت: المكتبة العصرية، 1423هـ / 2003م. ـ كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض: لأبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ/1983م. ـ كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي: لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي. تحقيق: محمد نجيب المطيعي. جدة: مكتبة الإرشاد. ـ كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي: لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي. تحقيق: محمد نجيب المطيعي. جدة (السعودية): مكتبة الإرشاد. ـ المحصول في علم أصول الفقه: لفخر الدين محمد بن عمر الرازي. تحقيق: د. طه جابر فياض العلواني. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1412هـ/ 1992م. ـ الملل والنحل: لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني. تحقيق: محمد سيد كيلاني. بيروت: دار المعرفة. ـ الموافقات في أصول الشريعة: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي. بيروت: دار المعرفة، 1425هـ / 2004م. ـ الموسوعة في آداب الفتوى [آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي/ الفتوى واختلاف القولين لأبي عمر بن الصلاح / صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لابن حمدان...]: تحقيق: أحمد حسون (مفتي حلب). سوريا (حلب): نشر المحقق، ط1، 1420 هـ. (1) انظر: حسن المحاضرة للسيوطي: 1/335 ـ 339. (2) انظر: البدر الطالع للشوكاني: 1/336. (3) انظر: حسن المحاضرة: 1/329 (ترجمة البلقيني)، التحدث بنعمة الله للسيوطي: 193، الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي. (4) انظر: التحدث بنعمة الله: 193. (5) التحدث بنعمة الله: 90. (6) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض: 16. (7) الجزء الثاني، القسم الأول: ص ص 281 ـ 282 (مبحث الإجماع). (8) التحدث بنعمة الله: 204 ـ 205. (9) المرجع السابق: 151 ـ 153. (10) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض 20 ـ 23، التحدث بنعمة الله: 228 ـ 223. (11) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض: 65. (12) الرد على من أخلد إلى الأرض: 67. (13) المرجع السابق نفسه: 68. (14) المرجع السابق نفسه: 68 ـ 69. (15) المرجع السابق نفسه: 69. (16) المرجع السابق نفسه: 70 ـ 71. (17) الرد على من أخلد إلى الأرض: 71 ـ 79: وفيه يورد نص إمام الحرمين في النهاية، ونص الإمام الغزالي في الوسيط، ونص الشهرستاني في كتابه الملل والنحل، ونص الرافعي عند شرحه لكلام الغزالي وعبارته، ونص ابن الصلاح في أدب الفتيا، ونص ابن عبد السلام في كتابه الغاية في اختصار الهداية، ونص النووي في كتبه (انظر: المجموع 1/42)، ونص ابن الرفعة في الكفاية، ونص الزركشي في كتاب القواعد في الفقه، وفي كتاب البحر المحيط في الأصول. (18) الرد على من أخلد إلى الأرض: 80 ـ 81. (19) المرجع السابق نفسه. (20) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض: 82 ـ 96. (21) وانظر: الأحكام لأبي يعلى: 86 و90 و284 ـ 285، الأحكام السلطانية للماوردي. (22) الرد على من أخلد إلى الأرض: 96. (23) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض: 97 ـ 112. (24) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض: 112. (25) الرد على من أخلد إلى الأرض: 112 ـ 113. (26) الرد على من أخلد إلى الأرض: 116. (27) المرجع السابق نفسه. (28) الرد على من أخلد إلى الأرض: 117. (29) انظر: المرجع السابق نفسه: 117 ـ 119، والرسالة: 19 ـ 220 تحقيق أحمد شاكر، قوت القلوب: 1/160 (باب ذكر وصف العلوم وطريقة السلف). (30) جامع بيان العلم: 2/142 ـ 143، الرد على من أخلد إلى الأرض: 120 ـ 123. (31) النحل: 43. (32) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض: 123. (33) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض: 123 ـ 147. |
| الصفحة الرئيسية | | صفحة الدوريات | | صفحة الكتب | | جريدة الاسبوع الادبي | | اصدارات جديدة | | معلومات عن الاتحاد | |
سورية - دمشق - أتوستراد المزة - مقابل حديقة الطلائع - هاتف: 6117240 - فاكس: 6117244 |