|
||||||
Updated: الاحد, تشرين الأول 26, 2008 09:52 ص | ||||||
فهرس العدد |
مُخالَفَةُ القِياسِ اللُّغويِّ في شِعْرِ الأَعْشَى ـــ د.مُحمَّد شَفيق البَيْطَار (*) تمهيد: لعلَّ المَرْءَ لا يكون مجانباً للصّوابِ إن ذَهَبَ إلى أنَّ (القياسَ) مبدأ عامٌّ في مختلِفِ وجوه الحياة وصنوفِ العلم، وأنّ الإنسانَ حين يلجأَ إلى (القياس) يُعْملُ فكرَهُ ليَجْرِيَ في فعلِهِ وقولِهِ على ما جَرَى عليه مَنْ يَقِيسُ فعلَهُ بفعلهِ وقولَهُ بقولهِ، ممَّنْ سَبقَهُ أو ممَّنْ يحيط به في مجتمعه. والفَنَّان المبدع المبتدئ يقيسُ ما يُبدِعهُ بإِبداعِ مَنْ تقدَّمَه، ولذلكَ كانت حاجتُهُ إلى التّلمذة؛ والشّاعر فنّان مبدعٌ أداة إبداعِهِ هي اللّغة، وقد عُرِفَتْ تلمذةُ الشّعراء القدماء بعضِهِم على بعض منذُ الجاهليّة، وذلكَ بأن يكون المبتدئ روايةً لشاعرٍ سابق، يحفظ شعرَهُ ويتمثَّل فنّه وأدواتِهِ المختلفة، ويتأثَر بِهِ في لغته وتراكيبه وموضوعاته. وقد تنّبه علماء العربية منذ القرن الأوَّل الهجريّ على أنّ هذه اللّغة محكومةٌ في ألفاظها وتراكيبها وشعرها ونثرها بقوانينَ جامعة مطَّردة ناظمة لها، فبدؤوا باستنباطهِا، وتلَقَّاها تلامذتُهم وتوسّعوا في الاستنباط، ولم يزل الاستنباط يتوسّع إلى أن نضجت مجموعةٌ من علوم العربية، منها النّحو والصّرف والبلاغة والعَروض والقوافي، وهي علوم تحتوي تلكَ القوانين والمقاييس؛ وتنبَّه أولئك العلماء أيضاً على أنَّ فيما وصل إليهم من كلام العرب ما يخرج على تلك القوانين المطّردة ويخالفُها، فدوَّنوا ذلك كلَّه في كتبهم. ولذلك يُعَدُّ (القياس) أصلاً مِن أصول العربيّة، تناولته أقلامُ العلماءِ قديماً وحديثاً في بحوث مفصّلة([1])؛ ولعلَّ الأعشى كان أكثر شعراء الجاهليّة مخالفةً لتلك القواعد والأصول، ففي أثناء بحثي في كتب اللّغة والنّحو والصّرف وضرائر الشّعر ونحو ذلك لَفَتَ نظري كثرةُ استشهاد العلماء بشعره، وتنبِيهُهم على ما فيه من مخالفةٍ للقياس والقوانين المطّردة في كلام العرب وأشعارِها، فجمعتُ ذلكَ، وراجعتُهُ على ديوانِهِ، فظهرَت لي فيه أمورٌ أضفتها إلى ما سبق، فاجتمعت لديّ كثيرة، فرأيت أن أقدمَّها في هذه المقالات التي اعتمدت فيها على المنهج الوصفيّ، مُكتفياً بتتبُّعِ مظاهر مخالفةِ القياس وعرضِها على القارئ، وإن كنت قد حرصت على نقل ما ذهب إليه العلماء مِن (تعليل) لبعض الظَّواهر، مَعَ العلم أنَّ كثيراً ممَّا عرضتُه يدخُلُ في الدّراسات الأسلوبية أو يُفيدُها. على أنّ مخالفتَه الأعشى للقياس ليست مطّردةَ في شعره، فإنَّ معظمه جاءَ موافقاً للقواعد الناظمة للعربية، وجاءَت مخالفةُ القياس في أبياتٍ قليلةٍ إذا ما قُورِنَتْ بسائر شعره وهو غزير كثير. و(الأعشى) لقبٌ لميمون بن قيس البكريّ، لُقّب به لعلّة في عينيه، وهو شاعر مشهور من شعراء الجاهليّة، يُعَدّ في الطبقة الأولى من فحولها البارزين، ولَهُ ديوان مطبوع قدّمَ له محقّقه الدكتور محمّد محمّد حســين ـ رحمه الله ـ بمقدّمة مستفيضة تناوَلَ فيها عصرَه وحياتَهُ وفنَّه، تُغنِي مَنْ شاءَ معرفةَ ذلكَ. ولاشكَّ في أنَّ وراءَ مخالفةِ القياس عند الأعشى أسباباً عدَّة، ولكنْ لعلَّ أهمَّها ـ في نظري ـ هو السَّبب النفسيّ، فهو شاعرٌ قلقٌ مضطربٌ لاهثٌ وراءَ ثلاثِ شَهَواتٍ تتحكَّم فيه: المرأة والخمر والمال، وكانت وراءَ تعهُّرِه في حياتِهِ وشعرِه، وكثرةِ وصفه للخمر ومعاقرتها، وتكسُّبِه بشعره وتبذيره؛ وهذا كلُّه يجعله أقلَّ حرصاً على إحكام شعرِه مِن سائرِ شعراءِ طبقته، وإن كانَ فيهم مَنْ يُشبِهُهُ في بعض جوانبِه النفسية؛ ولكن ليس هذا موضعَ دراسةِ الشاعر نفسّياً وأثر تركيبه النّفسيّ في شعره، وعسى أن يتولّى ذلك أحد الباحثين. أَوجُهُ مُخَالَفَةِ الِقياسِ في شعرِ الأَعشى: يتميز شعرُ الأعشى بغزارته إذا ما وُوزِنَ بشعر غيره من شعراء الجاهليّة، فقد بلغَ عددُ أبيات ديوانه (2320) عشرينَ وثلاثَ مئةٍ وألفَيْ بيت من الشّعر، وقدّم الأعشى مَنْ قدّمه على شعراء الجاهليّة لأَنَّه «كان أكثرَهُم عَروضاً، وأذهبَهُمْ في فنون الشّعر، وأكثرَهُمْ طويلةً جيّدَةً، وأكثرَهُمْ مدحاً وهجاءً وفخراً ووصفاً، كلُّ ذلكَ عندَه. وكان أوّلَ مَنْ سأل بشعره»([2]) ولعلّ غزارةَ شعرِه جاءت من أنّه تَخِذَ الشّعر متجراً ووسيلةً لِكَسْبِ الرّزقِ، فكان شعرُهُ صَنعتَهُ. وهذه الغزارة في شعره تجعله إِذا ما وقع على معنىً، ولم تُسْعِفْهُ اللُّغةُ على تركيبه بألفاظ تنقله إلى من يَسْمَعُهُ في سياق الوزن الذي اختاره = تجعله يتصرّف في ألفاظ اللّغة أو في تراكيبها المعروفة، حتى يذلِّلَها للمعنى الذي يريد، فيخالف بذلك الأصْلَ والقياس الذي كان ينبغي أن يأتي عليه الكلام. ومخالفة القياس في شعر الأعشى متعدِّدَة الوجوه، كثيرةُ الشَّواهدِ، يستطيع المرءُ أنْ يُعيدَها إِلى ثلاثة فروعٍ رئيسية، وهي: مخالفة القياس اللُّغويّ، ويُقْصَدُ بها أعيانُ الألفاظِ وما فيها من مُخالفةٍ لما تجري عليه ألفاظُ العربيّةِ؛ ومُخَالَفَةُ القياسِ النَّحْوِيّ، ويُقْصَدُ بهِا تركيبُ الجملةِ في عوامِلِها ومعمولاتها، واتّصال بعضِ أجَزائها ببعضٍ، وما في ذلكَ من مُخَالَفَة العربيَّة؛ ومخالفةُ القياس العَروضيّ، وهو ما يُسَمَّى بِعُيُوبِ الشِّعْر؛ ويستطيع المرءُ أيضاً أَنْ يُحَدِّدَ لكلِّ فرعٍ تَشَعُّباتٍ كثيرةً، وبهذه الفروعِ الثلاثةِ وتشعُّباتها تَتَّضِحُ ظاهرةُ مخالفةِ القياسِ في شعرِ الأعشى، وسأخصص هذا المقال لمخالفة القياس النحويّ، وأُتبعه مقالين في فرعَي مخالفة القياس الآخرين، إن شاء اللّه. مُخَالفةُ القياسِ اللُّغَويّ في شعر الأعشى: تَرِدُ مخالفةُ القياسِ اللغويِّ في شعرِ الأعشى على وجوهٍ عدّةٍ؛ فَثَمَّةَ أبنيةٌ لم تَرِدْ في أبنيةِ اللُّغَةِ المعروفة عند علماء اللغة، أو لم تُسْمَعْ مِنَ العربِ، جُموعاً ومصادرَ وأسماءً؛ وثمّةَ إِبدالُ ما لم تُبْدِلْهُ العَرَبُ، وتَرْكُ إِعلالِ ما تُعِلُّه، وتَرْكُ حَذْفِ ما حَقُّهُ الحَذْفَ، وحَذْفُ ما حقُّهُ الإثباتُ وهو كثير، ومَدُّ المقصورِ، وقصرُ الممدودِ، وتحريكُ السَّكنِ، وتسكينُ المُتَحِّركِ. فمنَ الأبنية الَّتي وَرَدَتْ في شعرِ الأعشى، ولم يَرِد مثيلٌ لها في اللُّغةِ وزن (فَيْعُل)، إذ قالَ([3]):
فقولُهُ (أَيْبُلِيٌّ) هَوَ (فَيْعُلِيٌّ)، قال سيبويه: «إِنَّ مِثالَ فَيْعُل لَمْ يأتِ في الكَلاَم»([4]) ولم يَقُلْ سيبويه ذلكَ لأنّه لم يقف على قولِ الأعشى، ولكنه كان –كما قال ابن جنّي ـ «إِذا تحجَّر شيئاً منَ اللّغة وخرج عنه الحرفُ أوِ الحرفان لم يستثنِ بما خَرَج عنِ الجمهور لِقِلَّتِهِ»([5]). وذهبوا في اشتقاقه مذهبَيْن؛ الأَوَّلُ: أنّه عربيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ أَبَلَ بالمَكَانِ إِذا أقَامَ بِهِ، أو من أَبَلَتِ الإِبِلُ بالرُّطَبِ عن الماءِ، أي أقامت عليه واجتزأت به عن الماء؛ فذكَرَ الأعشى أنَ هذا الرّاهب اجتزأ بما في الهَيْكل وأقام عليه ولم يتعدَّهُ إِلى غيره([6])؛ والثاني أنه من تسميةِ النَّصارى للمسيح عليه السّلام: (أَبِيل الأبيلين)، واستشهدوا على ذلك بقول عمرو بن عبد الجِنّ التّنوخيّ([7]):
وقال أبو عليٍّ الفارسيّ: «قال أبو عبيدة: أَبْيُلِيّ: صاحب أَبِيل، وهو عصا الناقوس، وقال آخر جاهليّ: [وأنشد بيتَ عمرو، وقال:] فظاهرُ هذا يَدُلُّ على أنه يعني بالأَبِيل ما يُعنى بـ (أَيْبُليّ)...» ([8])، وعلّل مَجِيءَ هذا الوزن في شعر الأعشى بأنّه يجيْءُ مَعَ ياءَيِ النِّسبةِ مالا يأتي مع غيرهما، وإِن لم يأتِ (فَيْعُلَ) بلا ياءَي النّسبة. وقال ابن جنّي في قولهم: (لصٌّ بَيِّنُ اللَّصُوصيَّةِ)، و(حُرٌّ بيِّنُ الحَرُوريَّة): إِنْ شئتَ جَعَلْتَهُ صفةً لمصدر محذوف، والتّقديرُ: لِصٌّ بَيِّنُ اللَّصَّةِ اللَّصُوصيَّةِ، وحُرُّ بيِّنُ الحُرِّيَّةِ الحَروريَّةِ: «وإِن شئتَ قلتَ غيرَ هذا، وذلك أنَّ مالا يجيءْ من الأمثلة بنفسه قد يجيْء إِذا اتَّصَلَت ياءُ الإِضافة بهِ، وذلك كقول الأعشى: (البيت) فأَيْبَليٌّ كما ترى (فَيْعُليٌّ) ولولا ياءُ الإضافة لم يَجُزْ ذلك، ألا ترى أنّه لم يأت عنهم (فَيْعُل)؟... فكذلك جاز لَصُوصيّة وحَروريّة»([9]). أمّا رِوايةُ أَبِي عُبَيْدَةَ للبيت فهي([10]): «وما آبُلِيٌّ على هَيْكَلٍ...» وهي على إِبدالِ الألف من الياء، كما أُبْدِلَتْ منها في (طائي). وممّا جاء في شعر الأعشى ولم يَرِدْ عن العرب أنَّهُ جَاء في شعره (يَقَنٌ) مَصْدراً لـ (أَيْقَنَ)، وجعل القَزَّازُ القَيْروانِيُّ هذا مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ؛ قال: «ومِمَّا يَجُوزُ لِلشَّاعِرِ: أنْ يُجْرِيَ المَصْدَرَ على غيرِ المَصْدَرِ القياسيّ... حكى قومٌ أَنَّ مصدرَ (أَفْعَلَ) جاء على (فَعَل)، وأنشدوا للأعشى([11]):
وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَيْقَنَ إِيقاناً وَيَقِيناً([12])»، ولكنَّ صاحب القاموس ذكر مصدرَ الثلاثيّ (يَقِنَ) كَفَرِحَ، فقال: «يَقْناً، وَيُحَرَّكُ»([13])، فإِذا كان الأعشى بَنَاهُ على الثُّلاثِّي فَلَيْسَ فيه مُخَالَفَةٌ للقياسِ. وَمِنْ هذا أنه جاء بـ (خُذُول) مصدراً لـِ (خَذَلَ)، فقال([14]):
يُريدُ أَنَّهَا لا تخذلهُ، و(خُذُول) مصدرٌ لم يَرْدِ في المعجمات، وَإِنَّما وَرَدَ قولُهُمْ: خَذَلَهُ خَذْلاً وخِذْلاناً([15]). وَمِمَّا وَرَدَ في ديوانِهِ ولم يَرِدْ في المعجمات قولُهُ([16]):
جَاءَ فِي شَرْحِهِ: «فَيْسَحاهٌ: لَمْ أعثر لَهَا على أصلٍ، وفي المعاجم: وهو يمشي الفيسحى، أَيْ يُبَاعِدُ في خطوه»، والفَيْسَحُ كالفيسحى: مُبَاعَدَة ُالخطو([17]). ووردت في ديوانه ألفاظٌ لم يُعْرَفْ لها معنىً على وجهِ الدّقّة، مثل لفظ (شاحِرْد) في قوله([18]):
قال في شرحه: «قالوا إن معناه متعلّم»، ولم أجد له مادّة في القاموس. ومثلها اللَّفظتَان (السَّكّيّ) و(فَيْتَق) في قوله([19]):
قال الشارح: «السَّكّيّ: ذكروا فيه معانيَ كثيرة، فقالوا: إنه المسمار أو الدينار أو البريد. والفيتق قالوا إِنّه النَّجَّار أو البواب أو الملك، وسُئلَ الأصمعيُّ عنِ الكلمتين فلم يعرِفْهُمَا». ونجد الأعشى إِذا جمع بعضَ المفرداتِ جَمْعَ تكسيرٍ خالَفَ القِياسَ في ذلك؛ كقوله([20]):
فَجَمَعَ لفظ (زَنْد) على (أَزْنادِ)، والعَرَبُ تجمع ما جَاء على (فَعْل) من الأسماء الثلاثيّة الصّحيحةِ العَيْن السّاكنةِ جَمْعَ قِلَّةٍ على (أَفْعُل)، قالَ سيبويه: «أمّا ما كان على ثلاثةِ أحرفٍ وكان (فَعْلاً) فإِنَّكَ إِذا ثَلَّثْتَهُ إِلى أَنْ تُعَشِّرَهُ فإِنَّ تكسيرَهُ (أَفْعُل)... فإِذا جاوز العَدَدُ هذا فإِنَّ البناءَ قد يجيءُ: على (فِعَال) وعلى (فُعُول)... وَرُبَّمَا جاء (فَعِيلاً) وهو قليل...وَاعلَمْ أنَّهُ قد يجيءُ في (فَعْل): (أَفعالٌ) مكان (أَفْعُل)، قال الشاعرُ: [وأنشد بيتَ الأعشى] وليس ذلكَ بالباب في كلام العرب»([21]). وأنشدَهُ المُبَرِّدُ([22]) شاهداً على ماجاءَ في جمع (فَعْل) غَيْرَ مُعْتَلٍّ على (أَفْعَال) مُشَبَّهاً بِغَيْرِهِ خارجاً عَنْ بَابِه. ومثلُ ذلكَ أنَّهُ جَمَعَ لفظ (أَنْف) على (آناف) فقالَ([23]):
أنشدَهُ سيبويه([24]) نظيراً لـ (أزناد) في شذوذ جمعها على وزن (أَفْعال)، وكان حقُّ (أَنْف) أَنْ يَجْمَعَهُ جَمْعَ كثرةٍ على (فُعُول). ومن هذا أنّه جَمَعَ لفظَ المصدرِ (فَعْل) جَمْعَ تكسيرٍ على (فَوَاعِل)، حَمْلاً له على ما يُكَسَّرُ عليه (فَاعِل)؛ قال ـ وقد جَمَعَ لفظَ (سَيْل) على (سَوَائِل)([25]):
أي السُّيول؛ وعلَّلَ ابنُ جنّي ذلك بقوَّة شَبَهِ المصدر باسم الفاعل، فقال: «وَيَدُلُّك على قُوَّةِ شبه المصدر بالصِّفَةِ [يريدُ: باسمِ الفاعل] وقوعُ كلِّ واحدٍ منهما مَوْقِعَ صاحبه، وذلك نحوَ قوله تعالى: }قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً{ [الملك 67/30] أي غائراً... وقولهم: قُمْ قائماً؛ أي قياماً، وعليه أيضاً كَسَّروا المصدرَ وهو (فَعْل) على ما يُكَسَّرُ عليه (الفاعل) في الوصف، وهو (فَوَاعل)، أَنْشَدَنَا أبو عليّ:
يريدُ جمعَ (هُجْر)، فكأنّه كَسّر (هاجراً) على (هواجر)، وأنشدنا أيضاً
يريد (السُّيول) جمعَ (سَيْل)، وَهُوَ كَثيرٌ جِدّاً»([26]). واستشهد ابنُ جنّي أيضاً ببيت الأعشى على أنَّ قَوْلَ الحُطَيْئَةِ:
يحتمل أنْ يكون قَولُهُ: (جوازيه) جمع (جزاء) «لمشابهةِ المصدرِ اسمَ الفاعل»([27])، وإِنْ كانَ الظّاهرُ أنْ يكونَ (جوازي) جَمْعَ (جازٍ)، أي: لا يعدم شاكراً عليه؛ فاحتملَ قولُ الحطيئة وجهَيْن، ثانيهما ـ أي أن يكون جمعَ جازٍ ـ أقوى من الأوّل. ومثلُ جمع (سَيْل) على (سوائل) جَمْعُ (خَتْم) على خَوَاتم) في قول الأعشى([28]):
وإِنْ كانَ هذا يحتمل وجهَيْن، كبيت الحُطَيْئَةِ، أحدهما أن يكون جَمْعَ (خَتْم)، والآخر أَنْ يكونَ جَمْعَ (خاتم)، أي آثار الخواتم، ولكنَّ هذا لا يمنع أن يكونَ الأوّلُ مراداً وقولاً([29]). وَمِنْ هذا أيضاً جَمْعُهُ (حاجة) على (حوائج) في قوله([30]):
والحوائج جَمْعُ (حاجة) على غير قياس، كَأنَّه جمع (حائجة)، «وكانَ الأصمعيُّ يُنْكِرُ هذا الحرف ويدَّعي أنّه مُوَلَّد، قال ابن برّيّ: إِنَّما أنكره الأصمعيُّ لِخُرُوجِهِ عن قياسِ جمع (حاجة)، والنحويّون يزعمون أنّه جمعٌ لواحدٍ لم يُنْطَقْ به وهو حائجة،... وأمّا قولُ الأصمعيّ إنّه مُوَلَّد فإِنَّهُ خطأٌ منه؛ لأنَّه قد جاء ذلكَ في حديثِ سِّيدنا رسولِ الله r وفي أشعار العرب الفصحاءِ...»([31]). وفي شعره إِبدالُ بعضِ الحروف التي لم يُسمع إِبدالُها عنِ العرب، وذلك في قوله([32]):
فقد جاء في شرحِهِ أنَّه أرادَ المَعْهَدَ، فَقَلَبَ العَيْنَ همزةً، والهاءَ حاءً، وقد ذكر ابنُ جِنِّي أَنَّ الحاءَ لا تكونُ بَدَلاً إِلاّ فيما شذَّ عَنْهُم([33]). ومن ذلك قوله([34]):
فَجَمَعَ (صائم) على (صُيَّم)، وأصله (صُوَّم)، فأبدل الواوَ ياءً، وقد ذكر المرزبانيُّ بِسَنَدٍ قويٍّ أنَ رُؤيةَ بنَ العجّاج سُئلَ عن قول أبيه([35]):
فقال: تُيِّهَ بِهِ في المتَيَّهِينَ، هُوُ (صُوَّم) ([36])؛ فَرَدَّه روبةُ إِلى الواو، وإِنْ كانَ صاحبُ القَاموسِ أوْرد جَمْعَ صائِمٍ بالواوِ والياءِ، «فَإِنَّ المَرْزُبَانيّ بسندِه القويِّ يكادُ يقطَعُ بأَنَّ الواوَ هي الأَصْلُ، وأنَّ الياءَ قد أَبْدَلَهَا العَجَّاجُ إِبدالاً مِنَ الواو»([37])، ومثلُه يكونُ جَمْعُ الأَعْشى. ووردت في شعر الأعشى مواضعُ صحَّحَ فيها ما حقُّهُ أَنْ يُعَلّ، وذلك في قولِهِ المشهور([38]):
وصِحَّةُ الواو في قوله (شَوِل) شَاذّة، فهي مُتَحَرِّكَة وقَبْلَها حَرْفٌ مَفْتُوح، وَالَقِياسُ أَنْ تُقْلَبَ أَلِفاً، فَيُقَال (شَالٌ) مثل: بَابٌ، ودَارٌ، ونابٌ، ورجلٌ مالٌ (ذُو مَالٍ)، وكَبْشٌ صَافٌ (كَثيرُ الصُّوفِ) ويومٌ رَاحٌ (شَديدُ الرِّيح)، ويَوْمٌ طَانٌ (كَثيرُ الطِّين)؛ وقال ابنُ جنِّي مستشهداً ببيت الأَعشى على قراءةِ ابنِ عّباسٍ رضيَ اللهُ عنه وغيرِه:} إِنَّ بُيُوتَنَا عَوِرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوِرَةٍ{ [الأحزاب: 33/13] بكسر الواو: «صحّةُ الواوِ في هذا شاذَّةٌ منِ طريقِ الاستعمال، وذلك أنَّهَا مُتَحَرِّكةٌ بعد فَتْحَةٍ، فكانَ قياسُهَا أَنْ تُقْلَبَ ألفاً، فَيُقال: عَارَة... ومثلُ (عَوِرَة) في صحّةِ وَاوِهَا قولُهم: رَجُلٌ عَوِزٌ لَوِزٌ، أَيْ لا شيء له، وقَوْلُ الأعشى: (البيت)، فكأنَّ (عَوِرَة) أسهلُ مِنْ ذلك شيئاً، لأنّها كانت جاريةً على قولهم: عَوِرَ الرَّجُل، فهو بلفظِه والمَعْنَيَانِ يَلْتَقِيَانِ، لأنَّ المنزلَ إِذا أَعْوَرَ [أَيْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ، وهي الخَلَلُ الَّذِي فيه] فَهُناكَ إِخْلاَلٌ واختِلالٌ»([39]). وعلَّلَ ابنُ جنِّي في (الخصائص) سَبَبَ صحّة الواو في (شَوِل) وأمثالِهَا نحو: عَوِر وقَوَد وخَوَنَة ومثلها ممّا يقتضي مَجيءُ واوِهِ مُتَحَرِّكةً بعد فَتْحَةٍ إِعلالَ هذه الواو، فقالَ: إنَّ سَبَبَ صحّة هذه الحروف طريفٌ، «وذلكَ أنّهن شَبَّهُوا حركةَ العَيْنِ [والعَيْنُ ههنا هي الواو] التابعةَ لها بحرفِ اللِّين التابعِ لها، فكأَنَّ فَعَلاً [أيْ ما جاءَ على وزن فَعَل من هذه الأسماء التي لم تُعَلّ عَيْنُهَا، مِثْل: قَوَدِ] فَعَال، وكأَنَّ فَعِلاً [مِثْل شَوِل] فَعِيل؛ فكما يَصِحّ نَحْوُ: جَوَاب [ممّا جاء على فَعَال، وعَيْنُهُ واوٌ بعدَها ألِفٌ زائدة]... وطَوِيل وحَوِيل [مِمّا جاءَ فَعِيل، وعَيْنُهُ واوٌ بعدَهَا ياءٌ زائدة] فَعَلى نَحْوٍ مِن ذلك صَحَّ بابُ القَوَدِ... والشَّوِل، مِن حيثُ شُبِّهَتْ فتحةُ العَيْن بالألف من بَعْدِها، وكَسْرَتُهَا بالياء من بعدها»([40]). وربمّا جاء الأعشى بخِلافِ ما جاء به في (شَوِل)، فَنَرَاه يُعِلُّ ما تُبْقِيه العَرَبُ صَحيحاً، حَمْلاً له على غيره، وذلك جَمْعُهُ (ثَوْراً) على (ثِيَرَةٍ) في قوله([41]):
وكانَ مذهبُ العربِ في جمعِ ثَورٍ أن تقول (ثِوَرَة) فَيُبْقى على الواو، على رَغْمِ تَحَرُّكِهَا ومجيءِ الكسرة قبلَها؛ لأنّ العَرَبَ تُراعي في الجمعِ حالَ المُفْرَدِ، لأنه أَسْبَقُ مِنَ الجَمْع –كما يقولُ ابنُ جنِّي ـ إِيثاراً للتَّجانُسِ والتَّشَابُهِ وحَمْلِ الفَرْعِ على الأَصْل « أَلاَ تَراهم لمَّا أُعِلَّتِ الواوُ في الوَاحِدِ أَعَلُّوهَا أيْضاً في الجَمْع في نَحْوِ: قِيمةٍ وَقِيَمِ، وَدِيمَةٍ وَدِيَمٍ،ولَمَّا صحّت في الواحد صَحَّحوها في الجَمْع فقالوا: زَوْجٌ وزِوَجَةٌ، وثَوْر وثِوَرَة»([42]) وأما (ثِيَرَة) فيما وَرَدَ عَنْهُم فإِنَّ ابنَ جِنِّي يذكر في سبب إِعلال واوها ثلاثةَ أقوالٍ: الأوّل أنَّهُ شاذٌّ، وهو مذهَبُ سيبويه، والثّاني أنَّهُمْ أَعَلُّوه ليفصِلُوا بذلكَ بَيْنَ الثَّورِ مِنَ البَقَرِ، والثَّورِ الَّذِي هُوَ قِطَعُ الأَقِط والَّذي يجمعونَهُ على (ثِوَرَة) بالتَّصحيح، وهُوَ مذهَبُ المُبَرِّد، والثَّالث أَنَّهَا منقوصَةٌ مِن (يِثَارَة)، فَتَرَكُوا الإعلالَ في العَيْنِ أَمارةً لِمَا نَوَوا مِنَ الأَلِفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي بَكْر بنِ السَّرَّاجِ([43])؛ فعلى القولَيْنِ الأوَّل والثّاني يكونُ إِعلالُ الواوِ في (يِثَرَة) مخالفاً لمذهبِ العرب في تصحيح أمثالها، هذا مع مُلاحظهِ أنّ الأعشى سَكَّنَ عَيْن (ثِوَرَة) فصارت (ثِوْرة) فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً لسكونها وكَسْرِ ما قبلها. وعلى الثّالث يكونُ قد حذف بعضَ أجزاءِ الكلمة وسكّن ما كانت حَرَكَتُهُ دليلاً على حذفِ ما حُذِف. وممّا خالف فيه الأعشى مذهبَ العرب أَنَّه أثبت الألف من ضمير المتكلِّم (أنا) في الوَصْل، وحقُّها أنْ تسقطَ في الوَصْل وتثبتَ في الوَقْف، فقال([44]):
فأجرى (أنا) في حال الوَصْلِ مُجْراها في حالِ الوَقْف، وكان حقُّ الألفِ أن تحذفَ منها؛ لأنّ الاسْمَ من (أنا) هُوُ (أَنَ) فَزِيدَتِ الألفُ للوقف([45]). وإذا كان الأعشى في هذا البيت يثبتُ ما حقُّه أَنْ يُحْذَف، فإِنَّه كثيراً ما يحذفُ ما حقُّه الإِثبات، فمن ذلكَ حذفُهُ الواوَ الواقعةَ صلةً لهاءِ الضميرِ المتحرّكِ ما قبلَها في الوصل، إِجراءً لها مجرى الوَقْفِ([46])، في قوله([47]):
فعند إِنشاد البيتِ لابُدَّ مِنْ لَفْظِهِ هكذا «وَمَالَهُ» بالضَّمِّ وحدَهُ، والوَجْهُ أَنْ يُلْفَظَ: «مَالَهُو». ومن بابِ الحذف في شعره أنَّه يحذفُ بعضَ حروفِ الكلمات، نحو حذف نون (مِنْ) في قوله([48]):
يريد: مِنَ الإِسفنط، فحذف النُّونَ لإِقامةِ الوَزْن، وذهب ابنُ عصفورٍ إِلى أنَّ حذفها «لالتقاءِ الساكِنَيْن تَشْبِيهاً لَهَا بالتَّنوين أو بحرفِ المَدِّ واللِّين، مِن حيثُ كانت ساكنةً وفيها غُنَّةٌ، وهي فَضْلُ صَوْتٍ في الحرف، كما أنَّ حرفَ المَدِّ واللِّين ساكن، والمَدُّ فَضْلُ صَوْتٍ فيه» ([49]). ومنه حذفُ الألف من لَفظِ (الكَتَّان) في قوله([50]):
يريدُ: الكَتَّان، لأَنَّ ثِيابَ الكَتَّان «مُعْتَدِلَةٌ في الحرِّ والبرد واليُبُوسَةِ، ولا تَلْزَقُ بالبَدَنِ ويَقِلُّ قَمْلُهُ»([51])، وأمّا الكَتَنُ فهو «لَطخُ الدُّخَانِ، والسَّوادُ بالشَّفَةِ، والتَّلَزُّجُ، وتُرابُ أَصْلِ النَّخْلَةِ، والدَّرَنُ، والوَسَخُ»([52]) فلا بُدَّ أن يكونَ الأعشى أرادَ الكَتَّان، ولكنّه حذف الألف وَخفَّفَ الحرفَ المُشَدَّد قبلَه ليستقيمَ لَهُ الوَزْنُ. ومثل تخفيف الشَّدَّة في (الكَتَّان) ـ وهو نوعٌ من الحذف ـ تخفيفُ الواوِ في لفظِ (فَوَّار)، في قولهِ([53]):
يريد: طَعْنٌ فوَّارٌ عنيفٌ واسعٌ يندفع منه الدّمُ، فخفَّفَ التَّشديدَ لضرورة الشِّعْرِ. وَمِثْلُه تخفيفُ الميم الزائدة الدّاخلة على لفظ الجلالة، في قوله([54]):
فَالمِيمُ في قولِهِ (لاَهُم) مُشَدَّدة في الأصل، تُزَاد في آخر لفظ الجلالة بدلاً من أداةِ النداء (يا) ولكنَّ الأعشى خَفَّفَها([55]). وذهب هذا البيتُ شاهداً لدى النَّحويّين واللّغويّين على أَنَّ لفظَ الجلالة (الله) أصلُهُ (لاَهُ) ثُمَّ دَخلت عليها (أَلـ) ([56]). ومنه أنه ربما اكتفى بالحركات من حروف المَدِّ، فهو يكتفي بالكسرة من الياء في قوله([57]):
أَراد: الغواني، «فاكتفى بالكسرة من الياء، وهو كثيرٌ جدّاً [عند العرب]»([58])، وَوَجْهُ هذا عند ابنِ عُصفور أنّه تشبيهٌ بقَصْر المَمْدُودِ أو بحَذْفِ الياءِ مَعَ التَّنْوِين «من جِهَةِ أنَّ (الألفَ واللاّمَ) و (الإضافةَ) يُعَاقِبَانِ التَّنوينَ، فحُكِمَ لكُلِّ واحدٍ منهما بحكم ما عَاقَبَهُ، فكما تُحْذَفُ الياءُ في (غوانٍ) مع التَّنوين فكذلك حذفت في قَوْله: ... (الغَوَانِ) مَعَ الأَلِفِ واللاَّمِ»([59])، وذهب القزّاز إلى أنّه مِن تَوَهُّمِ الشَّاعر أَنَّ حَذْفَهَا أصلٌ فيها، حَمْلاً على حذفِها مع التّنوين([60]). ومن اكتفائه بالكسرة عن الياء قوله([61]):
قال صاحب (سِفْرِ السَّعَادَةِ): «النُّون في (ثمانِ عَشْرَةَ) مكسورة، لأنَّه أراد ثَمَانيَ عَشْرَةَ»([62]) لِئَلاّ يَتَوَهَّمَ القارئ أنَّ (ثَمَانِ) تُقْرأ (ثَمَانَ) لأَنَّها معطوفةٌ على (ثَمانياً) قبلها، فَنَبَّهَ على أنَّ الشَّاعر قدِ اجتزأ بالكسرة عن الياء. ولكنّ الأعشى ربّما حذفَ الياء، وحذف الكسرةَ من الحرف الذي قبلها بتسكينه؛ قال([63]):
والأَصْلُ: أُهَنئ، فَسَهّل الهمزةَ فصارت: وأُهَنِّي، ثُمَّ حُذِفَتِ الياءُ وسُكِّنَتِ الثّانِيَةُ من المُشَدَّدَةِ. ومثل هذا قوله في قصيدةٍ أُخرى([64]):
يُريد: أزَنِّي. ومثله قوله([65]):
ومنه حَذْفُ ياء المتكلِّم من دون أَن يَجتزئ عنها بالكسرة، مع إبقائهِ على نون الوقاية في قوله([66]):
وفي قوله في القصيدة نفسها([67]):
أَخَا ثِقَةٍ.. (الخ). وفي قوله من القصيدة نفسها([68]):
يريد: يَأْتِيَنِي، وأَنْسَأَنِي، وأَنْكَرَنِي، وبَلَّغَنِي، وأَوْعَدَنِي، وَلَمْ تَرَنِي؛ فحَذَفَ ياءَ المتكلّم منها جميعاً، وليسَ هذا الحَذْفُ مِنْ بابِ حَذْفِ المفعولِ بِهِ لأنَّ المعنى مفهومٌ، كما هو في فصيح الكلام، ولكنَّما هُوَ حذفٌ بِسَبَبِ الضَّرورة والوَقْف، ولذلكَ أَثبت نونَ الوقاية، وهي إنَّمَا جاءَتْ لِتَقِيَ الفِعْلَ مِنْ الكسر الَّذي تُوجِبُهُ الياء، فأثبتَتَ النّونَ لِمَا نَوَاهُ مِنْ إِثباتِ الياء المحذوفةِ ضَرُورَةً([69]). وقد يحذف بعضَ الحروف من الكلمة، فيقعُ القارئُ باللَّبْس؛ نَجِدُ ذلك في قَوْلِه([70]):
قال في شرحه: «ذَمِ: تخفيف اذْأَمْ، وهو الأَمْرُ مِنْ ذَأَمَهُ (كَمَنَعَهُ) أَيْ حَقَّرَهُ وطَرَدَهُ وأَخْزَاهُ، والإِذْآمُ: الرُّعْبُ» ولولا هذا الشرح لَذَهَبَ بالقارئ عقلُه مَذَاهِبَ في ردِّ (ذَمِ) إلى أصله. ومثله قولُه([71]):
وفي الشرح: «بما: بمعنى رُبَّما»، ولولا ذلك لَظَنَّ القارئُ بالبيتِ الظُّنُونَ. وقَصْرُ الممدود نوعٌ مِنَ الحَذْفِ وَرَدَ في شِعْرِ الأَعْشَى، والنَّحْوِيُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى جَوَازِه في الشِّعر، لِمَا فيهِ مِن رَدِّ الاسم إلى أصلِه بحَذْفِ الزَّائد منه، ولكنَّ بعضَهم، كالكسائيّ يَحْصُرون هذا القَصْرَ فيما كانَ منصوباً، ويشترطونَ أَنْ يجيءَ في بابهِ مقصورٌ، فلا يَصِحُّ عندَهم مَثَلاً أَنْ تجيءَ مبالغةُ اسمِ الفاعل مقصورةً، لأنَّه لم يرد في صِيَغِ مُبالغةِ اسم الفاعل وزنٌ مقصورٌ؛ ولذلك لا يُقالُ عندَهم: هذا قَضَاكَ، ولا: عَجِبْتُ مِنْ قَضَاكَ؛ لأنّ الأَوَّل مرفوعٌ والثَّاني مجرورٌ، وهم يحصرونه في المنصوب؛ ولا يُقال: رأيتُ سَعَّا إِلى الشَّرِّ؛ لأنّه لم يرد عندَهم في بابِ مُبَالَغَةِ اسْمِ الفاعِلِ مَقْصُورٌ([72])؛ ولكنّ الأعشى قَصَرَ المرفوع، وقصر ما جاءَ على وزن مبالغةِ اسم الفاعِل، فقال([73]):
يريدُ: وَإِساءُ، و(الإِساءُ): الدَّواءُ، في موضع رَفْعٍ، فَقَصَرَهُ؛ ولا فرق عند البَصْريِّين بين المنصوبِ وغيره([74]). وقال، وَقَصَرَ ماجاءَ على وزن مبالغة اسم الفاعل([75]):
قصر (العَدَّاء) وهو (فعَّال) من العَدْوِ، ولم يأتِ في صيغةِ المبالغةِ مقصورٌ حتَّى يُحْمَلَ هذا عَلَيْهِ([76]). وعلى العكس من قصر الممدود مدُّ المقصور، قال([77]):
وإِنما هو (جُلَنْدى) مقصوراً([78])، وهو صاحبُ عُمَانَ من الأزْدِ. ومَدُّ المقصورِ نوعٌ من الزِّيادة في الكلمة، مثلُهُ تحريكُ السَّاكِن؛ وتسكينُ المُتَحَرِّك نوعٌ من الْحذْفِ كَقَصْرِ المَمْدودِ؛ وقد ورَدَ كلٌّ مِنْهُمَا في شِعْرِ الأَعْشى، قال([79]):
يُريدُ: (عُزْل) جَمْع (أَعْزَل) أي: لا رُمْحَ لَه، وأمَّا (العُزُل) بِضَمَّتَيْن فهو كـ (الأَعْزَلِ)، وجَمْعُهُمَا «عُزْلٌ وَأَعْزَالٌ وَعُزَّلٌ وَعُزْلاَنٌ وَمَعَازِيلُ»([80]) فعندما حَرَّك الساكنَ أَشْبَهَ الجَمْعُ المُفْرَدَ. وقال([81]):
فَحَرَّك اللاَّمَ بالكَسْرِ ليستقيمَ له الوزن، وحَمَلَهُ ابنُ جِنِّي على لُغةِ مَنْ يَقولُ مِنَ العَرَبِ: هَذا عَمُرْو، وَبَكُرْ، وَمَرَرْتُ بِعَمِرْو، وَ: بَكِرْ «فيَنْقل حَرَكَةَ الرّاء إِلى ما قبلها؛ وإِنَّما جازَ ذلكَ لأنّه إِذا حُرِّكَ ما قبل الرّاء فكأنَّ الرّاء متحرِّكة»([82]) ومِنْ هذا يكونُ تحريكُ الأعشى لاَمَ (السَّلْم) في البيت. وقال، وقد سكّن المتحرّك([83]):
فقوله: (عَجْلاً) هو «مصدَرُ عَجِلَ (كَطَرِبَ)، سكَّنَ الجيمَ لِضرورةِ الوزن» هذه عبارةُ الشَّارح ـ رحمه الله ـ وأحسب أنّ الشّاعر قال: (عَجْلى)، فكتبها النَّاسِخُ بالمَمْدودةِ فوقع الوَهْمُ. وقال([84]):
يريد: الرَّغَب، بفتحتين، وهو: المَرْغوب، فسكّن الغين لضرورة الشِّعر. وبهذا تنتهي المواضعُ التي وقفت عليها وقد خالَفَ فيها الأعشى مذاهبَ العرب في كلامها، فهو يخرج على أبنيتها المألوفة كما سبق بيانُه، وَإن كان أغلبُ خروجه عليها من بابِ الضَّرورة، لا من بابٍ نَقَبَهُ الأعشى في جدارِ اللُّغةِ وتَعَمَّدَ الخروجَ منه، كَمَا هُوَ مُلاَحَظٌ عند العَجّاج؛ فالشَّواهد التي مرَّت بنا من شعر الأعشى لا تُشَكِّل مَذْهباً له ومبدأً يعمل به، وإِنَّما هي من بابِ الضّرورة كما سبق القول، وتكاد تكون هذه الشواهدُ كلَّ ما وَرَدَ في شعره من مخالفةٍ للقياس اللُّغَويّ، ولكنَّ في شعرِه شواهدَ أُخرى من بابٍ آخر هو بابُ مخالفةِ القياسِ النَّحويّ، وهو موضوعُ الفَرْعِ الثَّاني مِنْ فُروعِ مُخَالفةِ القِيَاسِ في شعره، وسأتناوله في مقال قادم بإذن الله. المصادر والمراجع 1ـ أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها: لأبي محمّد الأعرابيّ الملقّب بالأسود الغُنْدِجاني (كان حيّاً سنة 430هـ)، تحقيق الدكتور محمّد علي سلطاني، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ/1981م. 2ـ الإنصاف في مسائل الخلاف: للأنباري، أبي البركات عبد الرحمن بن محمد (577ه(، تحقيق: محمد محيي الدّين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، 1402ه/1982م. 3ـ الخصائص: لأبي الفتح عثمان بن جنّي (392ه(، تحقيق: محمد عليّ البجاوي، دار الهدى، بيروت، بلا تاريخ. 4ـ ديوان الأعشى الكبير: تحقيق: د. محمّد محمّد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة 7، 1403ه/1983م. 5ـ ديوان الحطيئة: تحقيق: د. نعمان محمد أمين طه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1407ه/ 1987م. 6ـ ديوان العجّاج: تحقيق: د. عبد الحفيظ السطلي، مكتبة أطلس، دمشق، الطبعة 2، 1403ه/1983م. 7ـ سرّ صناعة الإعراب: لأبي الفتح عثمان بن جنّي (392ه(، تحقيق: د. حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، 1405ه/1985م. 8ـ سفر السعادة وسفير الإفادة: للسّخاويّ الإمام علم الدّين أبي الحسن عليّ بن محمد (643ه(، تحقيق: د. محمد الدالي، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1403ه/1983م. 9ـ ضرائر الشّعر، أو ما يجوز للشّاعر في الضّرورة: للقزاز، أبي عبد الله محمّد بن جعفر التّميميّ القيروانيّ (412ه(، تحقيق: د. محمد زغلول سلام ود. محمد مصطفى هدّارة، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1972م. 10ـ ضرائر الشعر: لابن عصفور الإشبيلي (669ه(، تحقيق: السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس، بيروت، الطبعة 2، 1402ه/1982م. 11ـ طبقات فحول الشعراء: لمحمد بن سلاّم الجمحيّ (231ه(، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1394ه/1974م. 12ـ القاموس المحيط: للفيروزابادي، محمد بن يعقوب (816ه(، مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406ه/1986م. 13ـ الكتاب: لسبيويه، أبي بشر عمرو بن عثمان (180ه(، تحقيق: عبد السّلام هارون، عالم الكتب، بيروت، بلا تاريخ. 14ـ لسان العرب: لابن منظور. 15ـ المحتسب: لأبي الفتح عثمان بن جنّي (392ه(، تحقيق: علي النجدي ناصف وَد. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة التراث الإسلامي، القاهرة، 1386ه. 16ـ المسائل الحلبيّات: لأبي عليّ الفارسيّ (377ه(، تحقيق: د. حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، 1407ه/1987م. 17ـ معجم الشعراء: للمزرباني، أبي عبيد الله محمد بن عمران (384ه(، تحقيق: عبد الستار فرّاج، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1960م. 18ـ مغني اللبيب: لابن هشام، جمال الدين عبد الله بن يوسف (761ه(،تحقيق: د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر، دمشق، الطبعة2، بلا تاريخ. 19ـ المقتضب: لأبي العباس محمد بن يزيد المبرّد (285ه(، تحقيق: محمد عبد الخالق عُضَيمة، عالم الكتب، بيروت، بلا تاريخ. 20ـ المنصف لكتاب التصريف: لابن جنّي (392ه(، تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، 1373ه/1954م. 21ـ الموشح في مأخذ العلماء على الشعراء: للمزرباني، أبي عبيد الله محمّد ابن عمران (384ه(، تحقيق: علي محمّد البجاوي، دار نهضة مصر، 1965م. (1) مِنَ الكتب القديمة التي تناولت القياس وما جاءَ مخالفاً لـه: كتاب سيبويه، والخصائص لابن جني، ولُمَعُ الأدّلة لكمال الدين بن الأنباريّ، والاقتراح للسيوطيّ، والمزهر لـه، وضرائر الشعر لابن عصفور، وما يجوز للشاعر في الضرورة للقزّاز القيرواني. ومن الكتب الحديثة: السماع والقياس لأحمد تيمور، ودراسات في العربية وتاريخها لمحمد الخضر حسين، والقياس في اللغة العربية لـه، وفي أصول النحو لسعيد الأفغاني، والقياس لمنى إلياس. ([7]) عمرو بن عبد الجنّ: شاعر جاهليّ قديم، خَلَفَ على مُلك جَذيمة الأبرش بعدَ قتله، فنازعه ابن أخت جذيمة: عمرو بن عديّ اللخميّ، وغَلَبه على الأمر، وكان الملك في الحيرة لأبنائه من بعده؛ معجم الشعراء:18، والشعر فيه. ([9]) المحتسب (1: 63 ـ 64). وفي مقاييس اللغة (1: 42 ـ أبل): «قال الخليل: الأَبيلُ من رؤوس النصارى، وهو الأبيليّ؛ قال الأعشى (البيت) قال: يُريدُ أبيليّ؛ فلما اضطُرَّ قدّم الياء، كما يقال: أينُق، والأصل أَنْوُقٌ». ([18]) الديوان (271). ومِسْحَل: اسم شيطان الشّعر الذي كان الأعشى يزعم أنَّه يُمِدُّهُ بالشّعر. وسَدَّى لَهُ القَوْل َ: أي نَسَجَهُ لَهُ وهيَّأه. ([20]) الديوان (123). والزَّنْدُ: أحدُ الزَّنْدَين، وهو العُود الأعلى الذي تُقتَدَحُ به النار؛ وثَقَبَ الزَّنْدُ: خرَجَتْ نارُه. ([23]) كتاب سيبويه (3: 568)، وهو في الديوان (137)؛ والرواية فيه:
وهو تحريف؛ وإلاّ فقد ردّ الضمير في قوله: (آفاقها) على محذوفٍ مفهوم من السياق وهو الأرض؛ أي: تثيرُ اللّقاح الغبارَ في الآفاق بسبب القحط. اللّقاح: الإبل ذوات اللَّبَن. والمعزّب: الذي يُعْزَبُ بماشيته عن الناس في المرعى. ([26]) المحتسب (1: 57). والبيت الأول الذي أنشده أبو عليّ هو لسلمة بن الخُرْشُبِ الأنماريّ يخاطبُ عامرَ بنَ الطفيل العامريّ، وقُرْزُل: هو فَرَس الطُّفيل بن مالك العامريّ، وكان قُرزُل من وَلَدِ داحسِ، ويُلَقَّب الطفيل بـ (فارس قرزل). والخنا: الفاحش مِنَ القول، والهُجْرُ: مثلهُ؛ انظر: أسماء خيل العرب ـ للغندجاني (198). ([28]) الديوان (129). يخاطب به يزيد بن مُسْهر الشيباني ويهدّده بالقتل ويحكي قول النّساء وهنّ يندُبنَهُ؛ فأرادَ بالرَّبَّ هنا السّيّد. ([31]) اللسان (حوج). وفيه بيت الأعشى وغيره من الشواهد من الحديث وأشعار العرب، ثمّ ذكر أنَّ الأصمعي رَجَع عن إنكاره. ([34]) الديوان (345). يصف ثوراً وحشيّاً، والعَذُوب: الذي يترك الأكل من شدة العطش، ويوائم: يوفق ويصنَعُ مثلَ صنع مَنْ يوائمه، والعَزُوبة: الأرض البعيدة. ([38]) الديوان (109). والحانوت: الخّمارة، والشاوي: مَنْ يَشْوي اللّحم، والمِشَلّ والشَّلُول: الذي يَشُلّ الإبلَ، أي يسوقها، والشُّلْشُل: الخفيف السريعُ في العمل، والشَّوِل: الذي يحملُ الشيءَ. ([44]) الديوان (103) وروايته: «فَمَا أَنَا أَم مَا انتحالي القوافي...» ولا شاهد فيه على هذه الرواية. ([45]) ضرائر الشعر للقزّاز (860)، وضرائر ابن عصفور (49، ومغني اللبيب (412)؛ وأشار القزّاز إلى رواية أُخرى هي: «فكيف يكون...» ولا شاهد فيه على هذه الرواية. ([57]) الديوان (179)، وروايته: «وأخو النساءِ...» ولا شاهد فيه. ووردت رواية: «وأخو الغَوَان...» في: كتاب سيبويه (1: 26 ـ 28)، والمنصف لكتاب التصريف (2: 73)، وضرائر القزّاز (143)، وضرائر ابن عصفور (119). ([73]) الديوان (59)، وروايته: «عنده الحزم والتقى وأَسَا الصَّرْعِ....» وأَسَا الجُرْحَ أَساً: داواه؛ ولا شاهد فيها. والصَّرْع: داءٌ يُبْطِلُ الحِسَّ يمنَع الحَرَكةَ. والشَّقّ: داءُ الشَّقيقةِ. |