| 
 | ||||||
| Updated: الاحد, تشرين الأول 26, 2008 09:52 ص | ||||||
| فهرس العدد | 
| معاهدة إبلا ـــ أ.د.فاروق إسماعيل(*) تُعَـد مدينة إبلا المكتشفة في موقع تل مرديخ (نحو 55 كم جنوب غربي حلب) من أهم المدن السورية القديمة. لقد كانت مركز مملكة مزدهرة برز شأنها بوضوح منذ القرن الرابع والعشرين ق.م وامتد إطار حكمها ـ بشكل تقريبي ـ بين شمالي حلب وسهل أنطاكية ومنعطف مجرى نهر الفرات نحو الشرق، وأطراف البادية السورية شرقي حماة، والسفوح الشرقية لسلسلة الجبال الساحلية، وتميزت بمتانة أسسها الاقتصادية، حيث توافرت في أراضيها محاصيل زراعية وفيرة متنوعة، وثروة هائلة من الأخشاب وزيت الزيتون في مناطقها الغربية، وتمت تربية المواشي بأعداد كبيرة في مناطقها الشرقية الممتدة نحو البادية السورية. وفي المدينة ذاتها وجدت مراكز حرفية برع العاملون فيها في تصنيع المواد والمعادن المستوردة من مناطق شتى، وإعادة تصديرها، ولذلك تحولت إبلا إلى مركز تجاري مهم في الشرق القديم، وكانت لها علاقات تجارية مع سائر البلدان المجاورة والبعيدة. وقد أدى ذلك كله إلى الغنى الاقتصادي والانفتاح على مواطن الحضارات المعاصرة، ومن ثم إلى ازدهار حركة التثاقف وتبادل التأثيرات الحضارية معها. انعكس ذلك في بنية الحكم والدقة الإدارية في القصر الملكي الذي كان يشرف على الحركة الاقتصادية من خلال عدد كبير من الموظفين العاملين فيه. وقد كان يفرض رسوماً على الشعب، ويتلقى هدايا وجزية من الولاة الحاكمين في البلدات الخاضعة لنفوذ المملكة، ويجبي رسوم العبور من التجار العابرين، ويمتلك القصر مراكز حرفية خاصة([1]). عاصرت إبلا نشوء مملكة أكّد في وسط بلاد الرافدين وجنوبيها، وكان ثمة فرق واضح في المستوى الاقتصادي بينهما، ولذلك سعى ملوك أكّد الذين كان لهم جيش ضخم إلى احتلالها، ونجح ملكاها القويان شركين مؤسس المملكة وحفيده نرام سين في إلحاق الضرر والخراب بها، بغية نهب ثرواتها الوفيرة، والتي لم تكن تتوافر في بلاد أكد. كما غدت مطمعاً لملوك مملكة ماري (تل الحريري، قرب البوكمال)، وبرزت نزاعات بين المملكتين حول السيادة على مناطق حدودية بينهما، عند منعطف الفرات نحو الشرق، جنوبي مدينة إيمار (تل مسكنة)، وثمة مرويات وتقارير عسكرية تتحدث عن تلك النزاعات، ويبدو أنها أدت إلى نجاح قوات إشتوب شر ملك ماري في بلوغ مدينة إبلا وتدميرها وإشعال الحرائق فيها، خلال القرن الثالث والعشرين ق.م. وقد كشفت التنقيبات الأثرية في الموقع عن آثار ذلك الدمار. ولكن ذلك لم يشكل نهاية المملكة، فقد ظلت متميزة اقتصادياً خلال القرون التالية، واستعادت ازدهارها خلال عصر نشوء الممالك الأمورية المتعددة في سورية وبلاد الرافدين (نحو 2000 ـ 1600 ق.م)، ونشطت فيها حركة العمران أكثر من المرحلة السابقة، وساد فيها الهدوء، وتوقفت الأخطار الخارجية([2]). وتعد إبلا ـ من الناحية الأثرية ـ من المدن المهمة التي تأخر الكشف عن أطلالها، رغم أن الوثائق الكتابية المسمارية في عدد من مواقع بلاد الرافدين كانت قد قدمت إشارات ومعلومات توضح أهميتها التاريخية الحضارية. فقد بدأت بعثة إيطالية التنقيب في موقعها (تل مرديخ) سنة 1964م بإدارة باولو ماتييه، وعثرت في موسم 1968م على جزء من تمثال بازلتي يمثل رجلاً، وعليه نص كتابي يدل على أن الاسم القديم للموقع هو إبلا([3]). أما في موسم 1975م فقد استكملت الكشف عن أجزاء القصر الملكي الرئيس وعثرت بداخله على المحفوظات (الأرشيف) الملكية التي ضمت نحو ستة عشر ألف رقيم مدون بالكتابة المسمارية، ضمن حجرة خاصة (مكتبة)، وقد كانت مصفوفة على رفوف خشبية، ثم ألمّ بها الحريق فأوقع وبعثر القسم الأكبر منها، لكنها بقيت سليمة([4]). لقد شكل هذا الاكتشاف حدثاً في غاية الأهمية، وشكّل منعطفاً في الدراسات الحضارية القديمة، وفي كتابة تاريخ سورية القديم، لأنه دلل بالوثائق الأصلية على وجود مملكة مزدهرة في قلب سورية منذ مطلع النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. تبين للباحثين المختصين أن هذه الوثائق مدونة باللغتين السومرية والأكّدية، وبلغة ثالثة اتضح لهم منذ المراحل الأولى من دراستها أنها تنتمي إلى مجموعة اللغات أخوات العربية المصطلح على تسميتها باللغات السامية، ولكنها لم تكن معروفة من قبل. مع تطور حركة البحث في وثائق إبلا بات واضحاً أن تلك اللغة كانت لغة محلية خاصة، اصطلح الباحثون على تسميتها «اللغة الإبلوية»، ومازالوا يبذلون جهوداً حثيثة في دراستها دراسة لغوية وصفية ومقارنة، ويختلفون في تحديد تصنيفها ضمن فروع اللغات السامية، وذلك ضمن اتجاهين رئيسين؛ اتجاه يرى أنها قريبة من الأكدية القديمة المعاصرة لها، بل هي لهجة أكدية غربية، واتجاه يذهب أنصاره إلى أنها تمثل أقدم مراحل اللغات الكنعانية التي انتشرت في سواحل بلاد الشام. كما ظهر رأي يقول بأنها تمثل فرعاً مستقلاً يمكن تسميته «السامية الشمالية»([5]). نشر الباحثون ـ حتى الآن ـ أكثر من عشر مجلدات من وثائق إبلا، وتبين أن معظمها يعود إلى الفترة ما بين 2400 ـ 2250 ق.م، وتبحث في موضوعات مختلفة، أهمها: آ) الشؤون الإدارية الاقتصادية كتوثيق الصادرات والواردات من القصر وإليه، وسجلات وبيانات تتعلق بالضرائب المستوفاة، والرواتب والأجور، وتوزيع الأراضي واستثمارها، والمحاصيل الزراعية المتنوعة، وبينها قوائم جرد قطعان المواشي، وتصنيع المواد المعدنية والمنسوجات والقطع الخشبية، وتقارير تتعلق بالتجارة الخارجية. ب) الشؤون الإدارية القانونية كالأوامر والمراسيم الملكية، والمعاهدات، والمراسلات الدولية، وسجلات بأسماء المدن التابعة لإبلا والجزية المفروضة عليها. ج) نصوص لغوية ـ معجمية تشمل تمرينات مدرسية، وتصانيف معجمية تتضمن مفردات إبلوية مع مقابلاتها السومرية، وفهارس لتعليم اللغة السومرية. د) نصوص أدبيـة ـ دينية تشـمل عدداً قليلاً من التعويذات والتراتيل الدينية والنصوص السحرية والأساطير والشعائر الدينية الخاصة بالبلاد. أما الآثار المادية المكتشفة خلال أعمال التنقيب الأثري المستمرة بمعدل شهرين في كل سنة فهي أعمل عمرانية تشمل عدداً من القصور والمعابد الدينية المخصصة لعبادة أبرز آلهة المدينة والمملكة، مثل دَجَن، عشتار، رَشَف، كاموش. كما كشف عن سور ترابي ذي قواعد حجرية يحيط بالمدينة، وفيه أبراج للمراقبة، وكذلك مدافن محفورة في أرض صخرية، عثر بداخلها على مجموعات من الحلي والمجوهرات الثمينة والقطع العاجية المستوردة من مصر. ومنها آثارها قطع فنية تمثل تطور فن النحت المجسم والنافر، وتتميز عن أعمال النحت الرافدي بتركيزها على تصوير الإنسان، والابتعاد عن الموضوعات الميثولوجية والدينية والتاريخية، وكذلك أعمال فنية خشبية في هيئة قطع الأثاث المنزلي، وقد زينت بأشكال محفورة فيها تصور مشاهد أسطورية وصراع المحاربين مع الحيوانات المفترسة، وتضاف إليها مجموعة كبيرة من الأختام الأسطوانية التي تظهر تشابهاً مع أختام بلاد الرافدين المعاصرة، من حيث الموضوعات المصورة وأسلوبها التقني الفني، وتتميز عنها بتصوير المرأة كعنصر فاعل في حماية الحيوان، إلى جانب الرجل([6]). أقدم المعاهدات الدولية يلقي هذا البحث الضوء على واحد من أهم النصوص الكتابية المكتشفة ضمن أرشيف القصر الملكي في إبلا، سنة 1975م، وهو نص معاهدة دولية عقدتها إبلا مع مدينة أبرسال. لقد ضم التراث الكتابي الوفير المكتشف في مدن بلاد الرافدين والشام والأناضول نصوص معاهدات دولية سياسية كثيرة، يعد أقدمها زمنياً نص المعاهدة السومرية التي فرضها إياناتوم (نحو 2470 ق.م) الحاكم في لجش (الهبا، شرقي بلدة الشطرة في جنوبي العراق) على خصمه حاكم أومّا (تل جوخه؛ غربي نهر الغراف في قضاء قلعة سكر) المجاورة، وذلك بعد نزاع طويل الأمد حول منطقة حدودية صغيرة فاصلة بين المملكتين، تكلل بانتصار ساحق حققه، ودفعه إلى توثيق الانتصار بالصورة والنص على نصب ضخم، عثر على أجزاء منه([7]). لقد دون نص المعاهدة على وجهي النصب في أعلى الأشكال المنحوتة وفي فراغات متفرقة ضمنها، وذلك بشكل أعمدة كتابية رفيعة، ضمّ الوجه الأول ثلاثة وعشرين عموداً، والثاني اثني عشر عموداً وثلاثة مقاطع قصيرة تشكل تذييلاً للنص. يبدأ النص بمقدمة وصفية تاريخية وذاتية، عرض فيها لمحات عن تاريخ النزاع الحدودي وتفاصيله، والانتصارات السابقة التي حققتها لجش على أوما، والدعم الإلهي لحكامها، ولاسيما إياناتوم القوي الذي حقق إنجازات وانتصارات متتالية حتى أخضع أوما إخضاعاً نهائياً، وحدد الحدود معها، وفرض عليها المعاهدة. تبدأ المعاهدة من العمود السادس عشر (السطر 12) حيث جاء فيها: قدّم إياناتوم شبكة الصيد الكبيرة الخاصة بالإله إنليل لحاكم أومّا، وفرض عليه أن يؤدي القسم. حاكم أومّا أقسم لإياناتوم بما يلي: بحياة الإله إنليل سيد السماء والأرض؛ سوف استثمر حقل الإله نين جيرسو، سوف (أقوم) بحفر المياه العميقة دائماً وفي كل مكان. سوف لن أتجاوز حدود الإله نين جيرسو بعد الآن، سوف لن أمارس أي تغيير في الحفر وقنوات المياه الموجودة هناك بعد الآن، سوف لن أخرّب الأنصاب المقامة هناك بعد الآن. إن تجاوزت (هذا العهد) فليت شبكة الصيد الكبيرة الخاصة بالإله إنليل سيد السماء والأرض، الذي أقسم به، تسقط من الأعلى على مدينة أومّا. إياناتوم حكيم حقاً، لقد أحضر حمامتين، كحّل عينيهما، زيّن رأسيهما بأغصان الأرز، وأرسلهما إلى الإله إنليل سيد السماء والأرض؛ إلى معبده (إكور) في مدينة نيبور، (لتعلماه بما يلي): إذا ما نقض أي شخص في مدينة أومّا هذه المعاهدة (inim في السومرية)، (وتفوّه) ضد إرادة الإله إنليل سيدي بأيّ كلام أو أي دعاء،...... وإذا ما غيّر هذه المعاهدة؛ فليت شبكة الصيد الكبيرة الخاصة بالإله إنليل، التي أدّى القَسَم فوقها، تسقط من الأعلى على مدينة أومّا. ثم يكرر الكلام نفسه، مع تغيير اسم الإله الراعي للمعاهدة، وصاحب شبكة الصيد التي سترتمي فوق أوما إن نقض أحد من زعمائها المعاهدة، وهي الآلهة: نين خورساج، إنكي سيد الأعماق، سين ثور الإله إنليل المندفع، اوتو سيد الخضرة، نين كي. وذلك بدءاً من العمود السابع عشر (السطر 21) حتى العمود الخامس من الوجه الخلفي (السطر 41) تلي ذلك خاتمة تتحدث عن قوة إياناتوم وحكمته ورضا الآلهة عنه ودعمه، والانتصارات التي حققها في بلادي سوبر وعيلام([8]). إنها تسبق معاهدة إبلا بأكثر من قرن، ولكن سمات المعاهدات الدولية أكثر وضوحاً في معاهدة إبلا التي تعود إلى نحو 2350 ق.م، فهي تخلو من مقدمة وخاتمة وصفيتين، وتعرض البنود المتفق عليها مباشرة دون حشو أو استطراد. كما أن الجزء الأساسي من معاهدة لجش قصير، لا يتجاوز أربعة وخمسين سطراً، (العمود /16/ س 12 ـ 45، العمود /7/ س 1 ـ 20) ولا يتجاوز عدد كلمات السطر الواحد ثلاث كلمات. أما التكرار بعد ذلك فلا يفيد غير التأكيد على رعاية آلهة أخرى للمعاهدة. يضاف إلى ذلك أن معاهدة لجش تركز على مسألة محددة هي تحديد الحدود المختلف عليها، وتعهد حكام أوما بذلك، وبعدم تغيير مجاري قنوات المياه أو تخريب الأنصاب المقامة هناك. ولذلك نعتقد أن معاهدة إبلا تظل رائدة في تاريخ المعاهدات السياسية الدولية في الشرق القديم. نص معاهدة إبـلا أشار بتيناتو Pettinato لغوي بعثة إبلا في مواسم التنقيب الأولى إلى هذا النص الفريد المدون على الرقيم ذي الرقم 75.G.2420، وذلك ضمن فهرس النصوص الذي أعدّه ونشره سنة 1979م([9]). ثم قام عدد من الباحثين المعروفين بنشر النص ودراسته، فقد نشره الفرنسي سـولبرجيه E.Sollberger سنة 1980م في دراسة عنوانها «ما يُسمّى بالمعاهدة بين إبـلا وآشور»([10])، ثم نشر البريطاني لامبرت Lambert دراسة عنها بعنوان «معاهدة إبلا» سنة 1987م([11])، وفي السنة التالية نشر الألماني كيناست Kienast دراسته «معاهدة إبلا ـ آشور، من منظور تاريخ القانون»([12]). ولم تفلح الدراسات الثلاث في تذليل صعوبة قراءة مقاطع منها وتفسير تعبيرات معينة فيها. صدرت في سنة 1992م دراسة الألماني إدزارد Edzard «معاهدة إبلا مع أَبَرْقا»([13]) التي قدم فيها ترجمة جديدة أشمل، وعرض ملاحظات لغوية مفيدة، وناقش مسائل خلافية أساسية بين الباحثين، وتوصل إلى الترتيب الصحيح لأجزاء النص المقسم إلى أعمدة أو حقول عمودية، ويضم نحو 632 سطراً. ونعرض فيما يأتي ترجمة عربية لنص المعاهدة، تعتمد على التحقيق والمقارنة بين الترجمات المتعددة، والتحقق من كثير من المصطلحات والمفردات في المعاجم والدراسات اللغوية، الخاصة باللغتين الإبلوية والسومرية. 
 أحكام المعاهدة يمكن تقسيم الأحكام المتفق أو الموافق عليها إلى مجموعات؛ حسب طبيعة التزام الفريقين المتعاهدين، وذلك على النحو الآتي: أحكام يلتزم بها الفريقان، وهي : 1- عدم محاولة احتلال المناطق المتجاورة بينهما؛ أي احترام سيادة كل دولة منهما على أراضيها. 2- عدم التشهير واللعن. 3- المحافظة على سرية الحركة التجارية بينهما. 4- عدم السماح للأفراد بالسفر إلى الدولة الثانية، دون الحصول على موافقة حاكمها. 5- حماية التجار وتسهيل عودتهم إلى بلادهم. 6- عدم ارتكاب فعل القتل خلال المبارزات التي تتم ضمن إطار الشعائر الدينية في شهر إيسي. أحكام مفروضة على أبرسال وحدها، وهي : 1- لا يسمح لحكام أبرسال بالسفر إلى إبلا، دون الحصول على موافقة حاكم إبلا. 2- يعاقب حاكم أبرسال، إذا غدر أحد مواطنيه بحاكم تابع لإبلا. 3- إعلام إبلا بالأخبار المتعلقة بأعمال عدوانية موجهة ضدها. 4- امتناع أبرسال عن ممارسة التجارة ببضائع صادرة من إبلا مع مدن معينة أو أشخاص محددين. 5- تحرص أبرسال على عدم إرسال زيت أو مشروب رديء إلى إبلا، وإذا تبين حصول ذلك فعليها أن تستبدله بنوع جيد. 6- تنشر أبرسال قوات في الضواحي، إذا ما أمر حاكم إبلا بذلك. 7- منع حدوث السرقة في مناطق إبلا الحدودية. 8- يلتزم سكان أبرسال بواجب استضافة الزوار الإبلويين، وحماية أغراضهم، والتعويض عنها في حال سرقتها فوراً. أحكام تلتزم بها إبلا، وحقوق خاصة بها، وهي: 1- استضافة الوفود الرسمية القادمة من أبرسال، لمدة محددة بعشرين يوماً. 2- يحق لإبلا وحدها إعلان موعد بدء الأعمال التجارية بين الدولتين. 3- لا تتحمل إبلا المسؤولية عن أعمال قتل داخلية في أبرسال، ولو عمد القاتل إلى إخفاء جريمته برمي الجثة في مناطق إبلا الحدودية. 4- في الشأن الداخلي؛ يتوجب على سكان إبلا عدم إيواء العبيد والإماء الهاربين من بيوت أسيادهم، وإخفائهم. وثمة ثلاث فقرات تتعلق بممارسة الجنس بشكل غير قانوني (40، 41، 42). ولا تتضح علاقة ذلك بالدولتين؛ من حيث إطار سريانها وجنسية الفاعلين. ويلاحظ ـ بشكل عام ـ أن العقوبات المحددة جاءت في ثلاثة أنواع، هي: 1- عقوبة غير محددة، تُرك تقديرها لحين حصول المخالفة، وعُبّر عنها بجملة (لن ينجو أو تنجو من العقاب). 2- عقوبة الموت. 3- عقوبة دفع الديّة، أي التعويض المادي؛ وغالباً في هيئة مواشٍ. لغة النص ذكرنا أن ثمة فريقاً من الباحثين يربطون لغة إبلا بالأكدية، ويدللون على ذلك بالتوافق بينهما في كثير من الحالات النحوية كصيغ ضمائر الرفع المنفصلة، وأسماء الإشارة، وأساليب بناء الاسم وتصريفه، وحروف الجر وبعض صيغ أزمنة الفعل. وبذلك يرون أن اللغتين تنتميان إلى مرحلة واحدة من مراحل التطور التاريخي اللغوي. وبسبب من ذلك يلاحظ تأثر اللغتين باللغة السومرية على نطاق واسع، نظراً لهيمنة الثقافة السومرية في مناطق شتى من الشرق القديم خلال النصف الثاني من الألف الثالث ق.م، إضافة إلى ارتباط الكتابة المسمارية بالسومرية منذ بداية نشأتها، ولم يخف ذلك التأثير إلا عندما طور الأكديون الكتابة المسمارية وجردوها من طابعها التصوري الرموزي، وجعلوا الأشكال تعبّر عن مقاطع صوتية مجردة لا علاقة لها بصور الأشياء. إن الازدواجية اللغوية واضحة في نص معاهدة إبلا، إذ تختلط فيها المفردات الإبلوية بالسومرية بدرجة كبيرة. فالفقرة الأولى من المعاهدة ـ على سبيل المثال ـ تتألف من عشر كلمات، واحدة منها فقط إبلوية، والبقية سومرية. وغالباً ما تزيد المفردات السومرية في الفقرات على الإبلوية، بل لا نجد بينها سوى كلمات إبلوية معدودة، ونادراً ما تتساويان؛ كما في الفقرتين الرابعة والثامنة عشرة. ومن الملاحظ أن المفردات الإبلوية المستخدمة هي في الغالب أدوات (الشرط، الجر، النفي، العطف)، وترد معها أسماء وأفعال قليلة. ويشمل هذا المظهر اللغوي معظم نصوص إبلا. الفريق الثاني في المعاهدة: أَبَرْسال رأى بتيناتو لغوي بعثة إبلا أن الفريق الثاني في المعاهدة هي دولة آشور A-sùr، ثم صدرت دراسة سولبرجيه التي خالف فيها رأيه، وحاول دحضه، ولكنه لم يستطع الجزم في الأمر. أما لامبرت فقد وفّق في تصحيح جزء من الاسم، إذ رأى أن المقطع الكتابي الثاني هو في حقيقة الأمر مقطعان، الأول منهما هو بَرْ bar أما الثاني لم يجزم في قراءته، واقترح القراءة قـا qa، أي أن صيغة الاسم في رأيه هي أَبَرْ ـ قا (؟). ثم ظهر رأي كيناست الذي لم يأت بجديد، وتبع رأي تبيناتو، ورأى أن جمع العلامتين بَرْ ـ قا يشكل قراءة أخرى هي سُر sùr كما فعل بتيناتو. أما إدزارد فقد توافق رأيه مع رأي لامبرت، وجزم في صحة قراءة العلامتين أ ـ بَرْ معتمداً على شواهد أخرى من نصوص إبلا، كاسمي الموقعين أَبَرْ ميزو، أَبَرْ لابا. ولكنه طرح إمكانية قراءة العلامة الثالثة بصيغة سال Sal4، التي قد تكون مقطعاً صوتياً أو رمزاً سومرياً دالاً على معنى مستقل. ثم أكد ألفونسو آركي A.Archi لغوي بعثة إبلا الجديد هذه القراءة، وبدأت تسود في الأوساط العلمية، ورأى أن العلامة Sal4 هي رمز سومري تصعب معرفة مرادفه أو معناه حالياً([15]). ودارت ـ في الوقت نفسه ـ مناقشات بين الباحثين حول موقع هذه الدولة المتعاهدة مع إبلا وحجمها وأهميتها وظهرت آراء عدة في ذلك، اتفقت جميعها في أنها تقع في الشمال الشرقي من دولة إبلا، واختلفت في التحديد الأدق؛ ونرجح رأي إدزارد الذي رأى أنها في المناطق الواقعة شمالي كركميش (جرابلس)، شرقي الفرات باتجاه أورفا أو غربي الفرات باتجاه غازي عينتاب، بل نرجح فيه الاحتمال الثاني أكثر. ويتوافق ذلك مع ما ورد في المعاهدة حيث أشارت (الفقرة 34) إلى أن أبرسال كانت منطقة جبلية تصدر الزيت والخمرة المستخلصة من الكروم، كما إن نصوصاً أخرى من إبلا تشير إلى أنها كانت مصدر كميات كبيرة من الفضة وصلت إلى إبلا. ويتناسب هذا مع طبيعة مناطق جنوبي مدينة غازي عينتاب وشرقيها التي تشكل السفوح الجنوبية لجبال طوروس التي وصفت في المصادر التاريخية القديمة بجبال الفضة. طبيعة المعاهدة شاعت عملية عقد المعاهدات الدولية في الشرق القديم على نطاق واسع؛ ولاسيما بدءاً من أواسط الألف الثاني ق.م، فقد كشفت التنقيبات الأثرية عن نصوص معاهدات أخرى في مراكز تاريخية سورية قديمة، مثل: شبت إنليل (تل ليلان)، ألالاخ (تل عطشانه)، أوغَاريت (رأس شمرا)، السفيرة. كما كشفت عن نصوص معاهدات كثيرة حثية وآشورية. لقد ميز الباحث التشيكي ف.كوروشج V.Corošec في دراسة شاملة له عن المعاهدات الدولية الحثية بين نوعين أساسيين من المعاهدات، هما: 1- معاهدات التكافؤ، حيث يكون المتعاهدان فيها على مستوى واحد من الأهمية والقوة، ويخضعان لشروط متكافئة متماثلة. 2- معاهدات التبعية، حيث يكون هناك فارق واضح بين المتعاهدين، ويلتزم أقلّهما شأناً بالشروط التي يفرضها عليه الأقوى([16]). ويسري هذا التصنيف ـ إلى حد كبير ـ على سائر معاهدات الشرق القديم، ولكنها تختلف وتتفاوت في طبيعة الموضوعات الجزئية فيها، وفي أسلوب بناء نصها. إن معاهدة إبلا تمثل مرحلة مبكرة، والطابع العام لها يدفع إلى تصنيفها ضمن معاهدات التبعية، ولكنها تتضمن في الوقت ذاته ملامح من النوع الأول أيضاً. فقد اتفق الفريقان على التزامات مشتركة متبادلة، ولكن ثمة التزامات كثيرة فرضت على أبرسال وحدها، وقد كانت بالتأكيد أقل شأناً من إبلا. كما احتفظت إبلا بحقوق خاصة بها كحق إعلان بدء أعمال التجارة، وإنكار المسؤولية عن أعمال قتل تحدث ضمن أبرسال. ومن اللافت للانتباه أن المعاهدة لا تذكر اسمي الملكين اللذين تعاهدا، وهو أمر كان سيفيد في تحديد دقيق لتاريخها، وفي معرفة الوضع السياسي العام الذي كانت تشهده إبلا آنذاك. وقد يستنتج من ذلك أن المعاهدة كانت بين دولتين، وليست معاهدة شخصية اتفق على إبرامها ملكان فحسب، فهي معاهدة تبقى سارية المفعول وذات صلاحية دائمة([17]). خاتمـــة إن هذه المعاهدة تمثّل درجة متطورة من الفكر السياسي الدولي لدى حكام أقدم مملكة سورية أثبتت ـ بغناها الاقتصادي وتنظيمها الإداري الدقيق وبراعة حكامها وشعبها ـ وجودها المتميز في الشرق القديم، خلال النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. ولذلك فهي تشكل واحدة من أهم وثائق التراث الكتابي الذي خلفه أسلافنا، وكشفت التنقيبات الأثرية في المواقع الحضارية السورية القديمة عن آلاف منها، ذات موضوعات متنوعة، وهي تشكل المصادر الأساسية لكتابة تاريخ سورية السياسي والحضاري في العصور القديمة. المصادر والمراجع آ) العربية: 1- الأكّدية والإبلوية: فون زودن ـ تر: فاروق إسماعيل ـ مجلة التراث العربي ـ العدد 85 ـ كانون الثاني 2002م. 2- إمبراطورية إبلا: علي القيم ـ دار الأبجدية ـ دمشق 1989م. 3- تاريخ بلاد الرافدين: عيد مرعي ـ دار الأبجدية ـ دمشق 1991م. 4- تاريخ سورية القديم (بلاد الشام) : أحمد ارحيم هبو ـ منشورات جامعة حلب ـ 2004م. 5- حكاية تحرير أسرى في إبلا: فاروق إسماعيل ـ مجلة المعرفة ـ العدد 500 ـ أيار 2005م. ب) الأجنبية: 1- Archi, A. (1985): The Royal Archives of Ebla. in: H.Weiss (ed.) Ebla to Damascus, Washington. 2- Edzard, D.O. (1992): Der Vertrag von Ebla mit A-bar-qa.in: P.Fronzaroli (ed.) Literature and literary Language at Ebla. QdS 18, Firenze. 3- Kienast , B. (1988): Der Vertag Ebla-Assur in rechthistorische Sicht. in: H. Waetzoldt- H.Hauptmann (ed.) Wirtschaft und Gesellschaft von Ebla. HSAO 2- Heidelberg. 4- Klengel, H. (1989): kulturgeschichte des alten Vorderasien. Akademie- Verlag , Berlin. 5- Lambert , W.G. (1987): The Treaty of Ebla. in: L.Cagni (ed.) Ebla 1975-1985, Napoli. 6- Pettinato , G. (1979): Catalogo dei testi Cuneiformi di Tell Mardikh - Ebla. MEE 1 , Naples. 7- Sollberger,E. (1956): Corpus des inscriptions royales presargoniques de Lagaš. Genève. 8- (1980): The So-Called Treaty Between Ebla and Ashur. SEB 3. 9- Steible, H. (1982): Die altsumerischen Bau-und Weihinschriften. Teil 1, Wiesbaden. |